فرق الصابئة
د. سامي عطا حسن – جامعة آل البيت
الصابئة
من الفرق التي ورد ذكرها في القرآن الكريم
يزعم بعض كتاب الصائبة وغيرهم أمثال : د. رشيد الخيون في مقال له في جريدة الشرق الأوسط ، و أمثال - ناجية مراني – في كتابها مفاهيم صابئية مندائية ، والصابئيان : نعيم بدوي و غضبان رومي ، من خلال ترجمتهما لكتاب المستشرقة الإنجليزية : الليدي دراوور، أن القران الكريم أثبت أن الصائبة ديانة توحيدية بذكره لها في ثلاث آيات من سور : البقرة ، والحج ، والمائدة و ما ذكروه مخالف للحقيقة ، بل باعوها بيع المجازف لم يحضره مكيال ، على حد قول الشاعر العربي ... فمن هم الصائبة ..؟
تعتبر الصائبة من أقدم الفرق و الطوائف التي اختلفت كتب الفرق و التاريخ بالحديث عنهم ، بل تشعب فيهم الحديث و اختلط ، و ذهبت الآراء في عقيدتهم مذاهب شتى ، و اختلفت بالمؤرخين لهم والمصنفين عند ذكرهم السبل والأنحاء .
فالعرب تسمى كل خارج من دين الى غيره صائباً .. و من هنا كان يقال للرجال اذا اسلم في بدء البعثة : قد صبأ ، بل ذكرت المصادر أن قريشا كانت تسمي النبي - صلى الله عليه و سلم - وصحابته الكرام : صُباة .. أي : الخارجون على دين قومهم .
ولما أسلم أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - قيلت له بعد إسلامه ، و عندما ذهب سعد بن معاذ - رضي الله عنه - إلى مكة ، عاتبه أبو جهل لدخوله في دين الصابئين ، أي المسلمين ، و لما قدم – خالد بن الوليد – رضي الله عنه و أرضاه – على بني جذيمة ، نادوه بأنهم : صبأوا .. أي دخلوا في دين الإسلام .
ولكن المسلمين لم يرتاحوا لهذه التسمية ، بل كانوا يكذبون كل من يطلق عليهم هذه التسمية ، فلما نادى – جميل بن معمر الجمحي – في قريش قائلاً : ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ ...وذلك حين دخل في الإسلام – فنادى عمر - رضي الله عنه وأرضاه - من خلفه قائلاً : لقد كذب .. إني أسلمت .. فتكذيب عمر - رضي الله عنه - وغيره للوثنيين من أهل مكة ، يشعر بأن أهل مكة إنما أطلقوا على المسلمين هذه التسمية إهانة لهم ، وازدراء بهم ، وإلا لما انزعج المسلمون منها ...... فالصائبة في اللغة إذن : هم أولئك الخارجون على عبادة قومهم ، المخالفون لهم في ديانتهم ، شأنهم في ذلك شأن من نسميهم في أيامنا بالملحدين أو الهدامين ، أو أي مصطلح آخر يرمي به من يخرج على ديانة المجتمع و قيمه و تقاليده .. ازدراء لهم و تنفيراً للناس منهم (1).
وهذا يتفق مع ما ذهب إليه الشهرستاني حيث يقول في سبب تسمية هذه الطائفة بالصابئة : ( صبأ الرجل : إذا مال وزاغ .. فبحكم ميل هؤلاء عن سنن الحق ، وزيعهم عن نهج الأنبياء ، قيل لهم : صائبة )(2).
بينما قالت المستشرقة الانجليزية : الليدي دراوور : بأن الصائبة كلمة مأخوذة من كلمة –صبا – ومعناها : الاغتسال بالماء الجاري ، أو من صبا الآرامية بمعنى : يغطس و يتعمد ) (3) وهم يطلقون على الماء الجاري او النهر اسم : يردنه ، وليس لها علاقة بنهر الأردن ، فالأردن و النيل كلاهما عن الصابئين يسمى : أردنه ، أو: يردنه ).
فرق الصابئة
يجد المتتبع لأخبار الصابئة في كتب التاريخ و الملل و النحل ، أنهم لم يكونوا طائفة واحدة ، و لم يجمعهم مذهب واحد ، و لم تؤلف بينهم تعاليم و شعائر معينة ، إلا أن المؤرخين وكتاب الملل والنحل يكادون يجمعون على انهم فرقتان :-
الفرقة الأولى : فهم الذين عرفوا في الفكر الإسلامي باسم : الحرانية ، و قد نبه البيروني إلى أن هؤلاء – الصائبة الحرانية – ليسوا هم الصائبة على وجه الحقيقة ، و أنهم تسموا بالصائبة في عهد الدولة العباسية (سنة 288) ليعدوا في جملة من تؤخذ منه الجزية و ترعى له الذمة ، و كانوا قبلها يسمون بالحنفاء والحرانية .
ويوضح الأستاذ – إسماعيل مظهر – ذلك بقوله : [ إنهم تسموا بهذا الاسم في زمن الخليفة العباسي عندما مر بحران ، ليحارب امبراطور بيزنطة ، فاطلع على أحوالهم ، ووقف على حقيقة ديانتهم فطلب منهم أن يعتنقوا دينا من الأديان قبل أن يعود من الحرب ، فدلهم بعض الدهاة - بعد أن دفعوا له الأموال - على أن يتسموا بالصائبة ، وهي من الأديان المذكورة في القرآن] .(5)
و تعرض المفسرون لذكر عقائد هذه الطائفة فقال الإمام الرازي في تفسيره بعد أن أورد الآراء التي قيلت فيهم :( و لهم قولان الأول : إن خالق العالم هو الله سبحانه ، إلا أنه أمر بتعظيم هذه الكواكب ..! و اتخاذها قبلة للدعاء و الصلاة .
والثاني : إن الله سبحانه خلق الكواكب - وهي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة و المرض - فعلى البشر تعظيمها ، و هذا المذهب هو المنسوب الى الكلدانيين الذين بعث الله فيهم إبراهيم - عليه السلام - رادا عليهم ، ومبطلا لقولهم .(6) و قال النيسابوري في تفسيره : ( وكانوا اي الصائبة يعبدون الكواكب ، و يزعمون انها المدبرة لهذا العالم ، و منها تصدر الخيرات و الشرور ) (7). و قال الأستاذ محمد عبد الهادي أبو ريدة في مقدمة كتابه رسائل الكندي الفلسفية ( ص 41.)
ما نصه : ( و من الجائز أن يكون هؤلاء الصائبة أتباع ديانة قديمة قد اختلطت بالفلسفة ، ولعل نحلتهم توحيد قديم يرجع إلى إبراهيم – عليه السلام – عادت إليه بعض التصورات البابلية القديمة وبعض مظاهر الوثنية التي حاربها إبراهيم عليه السلام ثم تغذت بعد فتح الاسكندر للشرق بعناصر فلسفية يونانية ).
و كانت الصائبة الحرانية تسكن شمال العراق ، و مركزهم الكبر في حران ، و هي مدينة قديمة جداً ، و تقع في شمالي الجزيرة قرب منابع نهر البلخ أحد روافد الفرات ، واشتهرت – حران – بأنها كانت مقرا لعبادة القمر – سن – و ظلت كذلك حتى بعد ان انهارات دولة الكلدانيين و دولة الفرس . (8).
و قد أنجبت – حران – كثيرا من العلماء الذين شاركوا في اثراء الفكر الانساني مشاركة فعالة ، في كثير من العلوم المختلفة : كالفلك و الرياضيات و الفلسفة و الطب و التاريخ و كافة العلوم الاسلامية ، أمثال : شيخ الإسلام ابن تيمية و ثابت بن قرة ، وجابر بن حيان ، وثابت بن سنان و البتاني الفلكي ، وأبو جعفر الخازن ، والجعد بن درهم - من رواد التأويل المنحرف والتفسير العقلي في الإسلام - وغيرهم ممن ذكرتهم كتب التاريخ .
الفرقة الثانية : الصابئة المندائيون أو المنديون :
و هم الذين تخلفوا ببابل من أسرى بابل الذي سباهم ، نبوخذ رصر ( الذي ينطقه العامة بختنصر ) إليها من بيت المقدس بعد تدميره هيكل سليمان ، وقد اعتادوا العيش في أرض بابل ، فآثروا البقاء بها ، ولم يرجعوا مع السبي العائد الى بيت المقدس ، بعد أن حررهم قورش الفارسي من الأسر ، فسمعوا أقاويل و معتقات المجوس وصبوا إلى بعضها .
فأصبح مذهبهم مزيجا من المجوسية واليهودية والنصرانية وانتشروا في بلاد الرافدين إلا أن المستشرقة الانجليزية الليدي دراوور قالت في كتابها : ( يوجد قدر لابأس به من الروايات ما يشير إلى أن لدى الصابئة الحرانيين ما يشتركون به مع الصابئة المندائيين الحقيقيين ، وأن المثقفين منهم في البلاط العباسي ، قد اختاروا ادعاءالتعابير الفلسفية الأفلاطونية الحديثة ( و هي فلسفة تصوفية نشأت في عصر انحطاط الامبراطورية الرومانية ) حين كانوا يتحدثون عن دينهم لإضفاء جو من العلمانية و الفلسفة على مذهبهم ، و كانت المجوسية لاتزال حية و كريهة ، فكان يجب تجنب أي تغييرات أو أية علاقة مع المعتقدات الفارسية ، إن وجود اسم زهرون (إبراهيم زهرون ) من بين أسماء فلاسفة البلاط العباسي ، يمكن أن يكون دليلا على صلة – الصابئة الحرانيين – بالصابئين المندائيين ، فزهرون هو : أحد ملائكة النور لدى المندائيين ، و كان من السهل عليهم تحويرلفظ (هرموز ) أو ( هرمز ) أهورا - مازدا ( أي : أهريمان ويزدان اله النور والظلمة عند المجوس ) إلى لفظ (هيرمس)أو (هرمس)و إلى أن يذيعوا بأن هرمس المصري كان أحد أنبيائهم .(9).
وذكرت كتب المقالات والفرق كثيرا من عقائدهم التي لا العلم بها ينفع و لا الجهل بها يضر (10) ، وقد أثرت الصابئة المندائية – بالطائفة الاسماعيلية ...! مما يدل على ان الفرق المنحرفة شبكة متصلة يمهد السابق للاحق ليستمر التخريب ..! بل يرى المقدسي بأن حمدان الاشعث الملقب بقرمط - زعيم القرامطة الاسماعيليين – كان صابئيا مندائياً .. ! (11)
ويرى الدكتور عبد المنعم الحفني أن ( الصائبة من باطنية اليهود ، و ينكر مؤرخو اليهود يهوديتهم على أساس انهم ثنوية ،( أي : يقولون بالهين ) و الخالق عندهم اسمه : الله .. بصيغته العربية ، و هو نورالسموات والأرض ، فاضت منه المخلوقات..
و قيل : انهم من نصارى اليهود وكتابهم السفر الكبير ( كنزة ربة ) يطرح نظرية في الخلق كنظرية سفر التكوين ، وهم ينوهون بيوحنا المعمدان و يسمونه يحيي لانه من الزاهدين المغتسلين و تشبه شعائرهم في الصلاة شعائر اليهود (12) و تنتشر هذه الطائفة في : الكوت ، والعمارة ، و الناصرية ، وواسط ، وبغداد وفي الأهواز على شاطىء نهر كارون في إيران ، ويسمونهم العامة بالصبية .. و يحتكرون الأعمال المتعلقة بالمشغولات والمسكوكات الفضية و الذهبية ، وكان معظم الصاغة في أسواق الكويت منهم !! و من أبرز رجالهم في العصر الحديث : الدكتور عبد الجبار عبد الله عالم الفيزياء الشهير و رئيس جامعة بغداد سابقاً ، والشاعر العراقي : عبد الرزاق عبد الواحد وكان يرأس الطائفة المدعو : عبد الله الشيخ نجم ...!؟
الصابئون في القرآن الكريم
ورد ذكر الصائبين في ثلاث سور القران الكريم :
قال تعالى في سورة البقرة (آية63) : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ).
و قال تعالى في سورة الحج (آية 17) : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) . و قال تعالى في سورة المائدة (آية 69) : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )
فهل ورد لفظ الصائبين في هذه الآيات يدل على أن الصابئة ديانة توحيدية كما يزعم الكاتبون عنها و غيرهم ؟ و الجواب بالنفي قطعاً ، فقد ذكرت آية سورة : الحج المجوس و الذين اشركوا اضافة الى الصابئين و النصارى ، فهل الذين أشركوا أو المجوس أهل توحيد حتى النصارى فهم أهل تثليث كما يزعمون و تنص عليه كتبهم ..!
ولسائل أن يقول : هل في اختلاف هذه الآيات يتقديم (الصَّابِؤُونَ ) ورفعها في آية المائدة و نصب (الصَّابِئِينَ) و تأخيرها في آيتي البقرة و الحج غرض يقتضي ذلك ..؟ فنقول : نعم هناك أغراض كثيرة ذكرها المفسرون منها :
أولاً : ان ترتيب الطواف المذكورة في آية البقرة يراد منه : الترتيب الرتبي .
أي : أنها ذكرت الأمثل والأسبق إلى أن وصلت لمن ليس له كتاب .. و لا مراء في أن هذا السلم الرتبي يقف (المؤمنون ) بالكتب المنزلة السابقة (كصحف إبراهيم و غيرها ) على أعلى درجاته ، ثم يليهم (اليهود ) لتقدم نبيهم و سبق زمانهم ثم (النصارى ) لتأخر نبيهم و زمانهم .
وأما (الصابئون) : فيتفقون على أدون درجات هذا السلم لكثرة مخالفاتهم و لما أحدثوه في مذهبهم من بدع و خرافات ، علاوة على انهم ليسوا أهل كتاب منزل ، لذلك تقدم ذكر النصارى على الصابئين لأن النصارى أهل كتاب ، فمرتبتهم متقدمة على الصابئين الذين لا كتاب لهم .
و أخر الذين أشركوا في الذكر في هذه الآية : لأنهم وإن تقدمت لهم أزمنة وكانوا في عهد اكثر الأنبياء ، إلا أنهم لما كانوا أكثرية في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - اعتبروا من أهل زمانه ، و بذلك يكون زمنهم متأخر عن زمن من سبقهم فأخر ذكرهم وقدم ذكر الصابئين على النصارى لأن زمنهم أسبق من زمن النصارى .
و الترتيب في أية سورة المائدة : كان لغرض تريد التنبيه عليه ، فقد ورد لفظ (الصابئين ) منصوباً بالياء في آيتي (البقرة و الحج ) عطفاً على محل اسم إن، بينما ورد اللفظ نفسه مرفوعا (الصابئون ) بالقطع عما قبله في آية (المائدة ) و التغيير في الحكم الإعرابي عن طريق (القطع) لا يعد فصيحا إلا إذا كان هذا التغيير لهدف يراد التنبيه عليه كما أسلفنا .
فاذا قلنا : ( إن محمداً وزيداً و عمرو قادرون على منازلة خالد ) فلا يكون هذا القول فصيحا وبليغا إلا إذا كان (عمرو ) في مظنة العجز عن منازلة خالد ،، فأردنا بهذا القطع ننبه المخاطب الىة خطئه في هذا الظن ، كما أردنا أن نؤكد على أن (عمروا ) يقدر على ما يقدر عليه زميلاه (محمد وزيد) و ما في آية المائدة من هذا القبيل .
فالصابئون وإن لم يكونوا أهل كتاب إلا أن حكمهم كحكم أهل الكتاب (اليهود والنصارى ) في ارتباط الجزاء ( و هو نفي الخوف عنهم يوم القيامة ) بالشرط و هو الدخول في الإسلام عن اعتقاد صحيح وإيمان خالص بالمبدأ و المعاد و اقتران ذلك بالعمل الصالح ، و بهذا يتساوى الجميع في نظر الإسلام إذا ما دخلوا فيه ، فلا فرق بين الجميع في الجزاء الأخروي ، فضلا عن محو الإسلام لخطاياهم .
وزاد القطع إلى الرفع في الصابئون الحكم توكيدا ، فيكون الصابئون مرفوعا على الابتداء والخبر محذوفا و يكون تقدير الكلام : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله و اليوم الاخر فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون .. و الصابئون كذلك ) قال في تفسير المنار (13) ( و لما كان هذا .. أي : إشراك الصابئين مع اليهود و النصارى في الحكم غير معروف عند المخاطبين في هذه الاية ، وكان الصابئون غير مظنة لإشراكهم في الحكم مع أهل الكتب السماوية حسن في شرع البلاغة أن ينبه على ذلك بتغيير نسق الإعراب ).
ثانيا ً : إن سياق كل آية من الآيات الثلاث مختلف عن سياق الأخرى .
فالمخاطب بآية (البقرة )هم اليهود .. لأن أكثر من نصف سورة البقرة يتحدث عنهم و سورة البقرة كما هو معلوم اول ما نزل من القران بالمدينة ، و اهتمامها بهذه الطائفة من الناس يرجع أولاً : لسكناهم الى جوار الدولة الإسلامية الوليدة ..
وثانياً : إلى بروز شوكتهم و حقدهم ، فجاءت الآية في ثنايا مقطع قراني يتناول بالذكر ما حل باليهود من ذلة و مسكنة ، و ما نزل بهم من غضب و نقمة يستحقونها ، فقال سبحانه في الآية السابقة للآية موضوع البحث (رقم 61) : ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله .... الآية ). و هذا السياق يوحي باليأس و يغري بالقنوط من رحمة الله ، و لربما توهم الخلف ضياع إيمان أسلافهم وأن السماء على عداوة مع جنسهم ، فجاءت آية البقرة لتدفع عن نفوسهم هذا الظن السيئ بالله ، و لنرفع هذا الوهم الخاطىء ، ولتبين رحمة الله بعباده مهما كانت أجناسهم ، فهو سبحانه لايؤاخذ هم بسبب الجنس والنسب ، وإنما يؤاخذهم على تركهم العقيدة الصحيحة ، فالمناسب في هذا المقام ترتيب تلك الطوائف الأربعة ترتيباً رتبيا – كما أسلفنا – يقف على أعلى درجاته المؤمنون و يقف في أدنى درجاته الصابئون ،، لأنهم لا كتاب لهم منزل كما للطائفتين الموجودتين من أهل الكتاب (اليهود و النصارى ) وقت نزول القران ، الوارد ذكرهما في قوله تعالى : ( أن تقولوا أنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا .. الآية (15) ) فوجب ان يكونوا متأخرين في الذكر عن أهل الكتاب لأنهم ليسوا أهل كتاب .
و سياق آية المائدة : ينعى على أهل الكتاب من يهود و نصارى عدم حكمهم بما أنزل الله بل يغربهم السياق في آيات عديدة الى قبول الإسلام فقال سبحانه : ( و لو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم )(16) .
ثم جاءت آية المائدة المتحدث عنها لتبين أن ( الصابئون ) مع ميلهم عن الأديان يتاب عليهم إذ صح منهم الإيمان والعمل الصالح ، فلاشك أن أهل الكتاب أولى بالتوبة منهم إذا صح منهم الإيمان .
أما سورة الحج : فجاءت في سياق سورة يمتاز أسلوبها في مجموعه بالقوة و الشدة والإنذار والتحذير وغرس التقوى في القلوب بأسلوب تخشع له القلوب ، وتستعرض مشاهد الكون ومشاهد القيامة ومصارع الغابرين ، فرتبت الآية الطوائف المذكورة ترتيباً زمنياً ، وبينت أن من يؤمن إيماناً صادقاً يناله الثواب ، ومن يكفر ينزل به العقاب وهناك أغراض وفوائد أخرى يلمسها المتدبر للآيات والقارىء لما كتبه أسلافنا من المفسرين . ومن كل ما سلف نستنتج أن الصابئين ليسوا أهل كتاب و توحيدهم المزعوم إن وجد من قبيل توحيد إخناتون الذي وحد قومه على عبادة الشمس و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل ....