العقل دواء القلوب ، وشفاء الصدور ، وتاج المؤمن في الدنيا ، وقائده إلى الآخرة ، وعدته في النوائب ، لا يعدله شيء ، ولا يوازيه أمر ، إذا تم العقل تم معه كل شيء ، وإذا ذهب العقل فلا قيمة لشيء :
إذا تم عقل المرء تمت أموره وتمت أياديـــــــــــه وتم بناؤه
فإن لم يكن عقل تبين نقصـــه ولو كان ذا مال كثيرا عطاؤه
لا يكمل الدين إلا بالعقل ، ولا يجمل الحياء إلا بالعقل ، فهما تابعان له كما أن العقل إذا حرم نور الدين وبصيرة الهدى فهو وبال على صاحبه ، وحسرة على حامله ( إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ) فالكفار لهم عقول ولكن لا يعقلون بها الحق ، ولهم قلوب ولكن لا يفقهون بها الحق ( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) ، يعقلون كل شيء إلا أمر الله ، ويفقهون كل شيء إلا عن الله ، فمهما أوتوا من العقل إلا أنه عقل نكد ، وفهم تعيس ، وعلم بائس ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) .
العاقل هو من يعقل عن الله ، ويؤمن به حق الإيمان ، ويذعن لحكمه ، ويتبع رسله ( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب ) لا يتم دين أحد حتى يتم عقله ، والعقل بلا دين حسرة وهلاك ، والمتدين من غير عقل يسيء إلى نفسه ، ويسيء إلى الناس ، ويسيء إلى الدين ، كان الحسن البصري إذا أخبر عن رجل بصلاح قال : كيف عقله ؟ فما تم دين عبد قط حتى يتم عقله .
قيل : الناس ثلاثة : عاقل وأحمق وفاجر ، فالعاقل الدين شريعته ، والحلم طبيعته ، والرأي الحسن سجيته ، إن نطق أصاب ، وإن سمع وعى ، وإن كلم أجاب ، والأحمق إن تكلم عجل ، وإن حدث وهل ، وإن استنزل من رأيه نزل ، وأما الفاجر فإن إئتمنته خانك ، وإن صحبته شانك .
وقيل : للعاقل خصال يعرف بها : يحلم عمن ظلمه ، ويتواضع لمن هو مثله ، ويسابق بالبر من هو فوقه ، وإذا رأى باب فرصة انتهزها ، يتدبر ثم يتكلم ، وإن عرضت فتنة اعتصم بالله ثم تنكبها .
العاقل لا يقدم اللذة العاجلة والمتعة الزائلة على الحياة الدائمة والنعيم المقيم ، فإن الحياة مهما طالت ، والعمر مهما امتد ، والدنيا مهما أقبلت فلابد من الرحيل ، ولا مناص من الفراق ، وهناك الدوام ، إما في الشقاء وإما في النعيم ( وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون ، أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ) .
العاقل يعلم أن الحياة الدنيا دار مرور وعبور ، وأنها لهو ولعب وتفاخر وزينة ، وأنها أشبه براكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها ( وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ) .
العاقل لا يتبع هواه ، ولا ينقاد لشهوته ، لأن الهوى عن الخير صاد ، وللعقل مضاد ، وهو ينتج من الأخلاق قبائحها ، ويظهر من الأفعال فضائحها ، ومن أطاع هواه أعطى عدوه مناه ، فالعقل صديق مقطوع ، والهوى عدو متبوع ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) .
يا عاقلا أردى الهوى عقله مالك قد سدت عليك الأمور
أتجعل العقل أســــير الهوى وإنما العقل عليه أميـــــــــر
( أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) .
العاقل لا يقدم عقله على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا يجعل الشرع تبعا لرأيه ، فإنه لا يسلم إسلام من لم يسلم لنصوص الكتاب والسنة ، وينقاد إليها ، ولا يعترض عليها ، ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه ( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ) .
فالعقل يزداد بكثرة التجارب ، وممارسة الأمور ، ومن طال عمره نقصت قوة بدنه وزادت قوة عقله ، والتجربة مرآة العقل ، والغفلة ثمرة الجهل .
العاقل يعرف بسكونه وسكوته ، وخفض بصره وحركته في أماكنها اللائقة بها ، ومراقبته للعواقب ، فلا تستفزه شهوة عاجلة عاقبتها ضرر ، ينظر في الأمور فيتخير الأعلى والأحمد عاقبة ، من مطعم ومشرب وملبس وقول وفعل ، ويترك ما يخشى ضرره ، ويستعد لما يمكن وقوعه .
العقل نعمة عظمى وهبة كبرى ، يجب أن يشكر المولى عليها شكرا عمليا ، وذلك بحفظ العقل مما يكدر صفوه ، ويعكر فهمه ، ويفسد صلاحه ، ويطمس نوره ، إنه أمانة يجب حفظها ، وعطية يتحتم رعايتها ، وذلك بالبعد عن الشبهات ، والحذر من الشهوات .
اللهم متعنا بعقولنا ، اللهم عمر قلوبنا وعقولنا بحبك وحب من يحبك ، اللهم نور أبصارنا ، وزك نفوسنا ، واحفظ من الزيغ أفكارنا وعقولنا .