الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله وبعد :
فمعلومٌ في الفطر السوية المستقيمة أنَّ اللون الأبيض أفضل من اللون الأسود .
و من المتقرر أنَّ الرب تبارك وتعالى خلق عباده على ألوان وأشكال مختلفة ؛ وذلك ابتلاءً من الله تبارك وتعالى ( واللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ ) [النحل : 71] .
وقال سبحانه مبيناً اختلاف خلق خلقه في الألوان والألسنة – أي اللغات – وأنَّ هذا دليل على كمال قدرة الله تبارك وتعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ) [الروم : 22].
وقال تبارك وتعالى مبيناً اختلاف ألوان خلقه ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ () وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ )[فاطر/27-29] .
والله سبحانه و تعالى فاضل في خلقه في هذه الدنيا بهذه المفاضلات لعدة أمور :
الأمور الأول : بيان عموم قدرة الله تبارك وتعالى .
قال العلامة الشنقيطي – رحمه الله – في أضواء البيان - (ج 6 / ص 262) : [قد أوضح تعالى في غير هذا الموضع : أن اختلاف ألوان الآدميين واختلاف ألوان الجبال، والثمار، والدواب، والأنعام كل ذلك من آياته الدالة على كمال قدرته، واستحقاقه للعبادة وحده .
واختلاف الألوان المذكورة من غرائب صنعه تعالى وعجائبه، ومن البراهين القاطعة على أنه هو المؤثر جل وعلا، وأن إسناد التأثير للطبيعة من أعظم الكفر والضلال .
الأمر الثاني : عموم علم الله تعالى .
لأن الخالق لا بد أن يعلم ما خلقه { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } .
الأمر الثالث : أنه وحده الذي يستحق أن يعبد ويوحد لأنه المنفرد بالخلق فيجب أن يفرد بالعبادة، فكل هذه أدلة عقلية نبه اللّه العقول إليها وأمرها بالتفكر واستخراج العبرة منها. تفسير السعدي - (ج 1 / ص 639) .
الأمر الرابع : أنه على كثرتكم وتباينكم مع أن الأصل واحد ومخارج الحروف واحدة، ومع ذلك لا تجد صوتين متفقين من كل وجه ولا لونين متشابهين من كل وجه إلا وتجد من الفرق بين ذلك ما به يحصل التمييز. وهذا دال على كمال قدرته، ونفوذ مشيئته.
ومن عنايته بعباده ورحمته بهم أن قدر ذلك الاختلاف لئلا يقع التشابه فيحصل الاضطراب ويفوت كثير من المقاصد والمطالب .
الأمر الخامس : حصول الابتلاء من الله تعالى .
فالله يبتلي من أعطاه اللون الحسن لئلا يطغى، وابتلى من أعطاه اللون الأسود والأغبر لئلا يسخط على قضاء الله، و يصبر، و لا يحسد، فالدنيا دار ابتلاء واختبار من الله تبارك وتعالى لعباده، كما قال تعالى : (وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم )[المائدة : 48] .
وقال سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [الأنعام : 165] .
وقال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) [الملك : 2] .
فاصبر يا أخي و تلتفت لهذه الأمور واعلم بأنَّ العاقبة للتقوى و للمتقين .
واعلم – بارك الله فيك – بأنَّ هذه مقاييس الدنيا وأهلها، وأما مقياس الله و الآخرة فهو التقوى .
و تفضيل الله لبعض خلقه في الدنيا لا يعني تفضيله في الآخرة؛ لأن الله يعطي الدنيا من يحب و من لا يحب و لا يعطي الدين إلا من أحب .
قال تبارك وتعالى موضحاً هذه القضية : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) [الحجرات : 13] .
قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره - (ج 7 / ص 385) : [ فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية .
وقوله: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } أي: إنما تتفاضلون عند الله بالتقوى لا بالأحساب] .انتهى .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ قال: "أكرمهم عند الله أتقاهم" قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله". قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فعن معادن العرب تسألوني؟" قالوا: نعم. قال: "فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فَقِهُوا" .
وفي صحيح مسلم رحمه الله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
هذا وأسأل الله لي ولك ولكافة المسلمين بالهدى و التقى و العفاف و الغنى