الأزمة الموضوعية في عالم الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وهي الأولى حجماً ونوعاً، في عصر العولمة، كشفت عن أزمة عميقة في الذات، فكلا الطرفين (الطرف المدافع عن الرأسمالية والطرف المناوئ لها) أظهر، إذ تحدَّث وكتب، عجزاً علمياً، فما سمعناه أو قرأناه من رأي وتحليل وتعليل وتفسير.. ومن مواقف من ثمَّ، إنَّما أظهر وأكد الاغتراب الفكري.
كل الأجوبة كانت بعيدة، غريبة، عن "السؤال".. سؤال "ما حقيقة هذا الذي حدث؟ ولماذا حدث؟ ولماذا حدث على هذا النحو فحسب؟".
وكان يكفي أن تستمع لممثلي الرأي والرأي الآخر في بعض من الفضائيات العربية حتى تتأكد أنَّ الأزمة في العقول أشد عنفاً من الأزمة في "وول ستريت"، أو من الأزمة التي انطلقت من حي المال هذا.
هذا يدافع عن الرأسمالية وهو يجهل تماماً حقيقتها الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية، وذاك يُحدِّثك عن الاشتراكية، وعن ماركس والماركسية، بما يقيم الدليل على أنَّ مأساة ماركس تكمن في أنَّ منتقديه ومؤيديه متساوون في سوء فهمه.
إننا حديثو العهد في الممارسة الإعلامية لحرية الرأي، بوجهيه أو طرفيه؛ ولكنَّ هذا يجب ألاَّ يظل مبرِّراً لفهم حرية الرأي على أنها الحرية في نبذ "العلمية" من الآراء، فأنتَ، على سبيل المثال، ليس من حقكَ أن تتحدث، بدعوى حرية الرأي، عن "السلعة"، و"رأس المال"، و"رأس المال المالي"، وأنتَ تجهل ماهية تلك الأشياء أو المفاهيم.
"الأزمة" تزامنت مع أزمة في جائزة "نوبل" للاقتصاد، فمنحها، هذه المرة، اصطدم بعقبة أخلاقية، فكيف تُمْنَح لرجل اقتصاد في وقت تشهد الأزمة على أنَّ ملتون فريدمان قد نالها بوصفه أحد كبار النظريين الاقتصاديين المسيئين إلى الاقتصاد الرأسمالي؟!
ومع ذلك منحوها لرجل اقتصاد، حاله الفكرية لا تقل سوءاً عن الحال الاقتصادية للنظام الرأسمالي.
ولو كان للموضوعية والعلمية من وزن يُعْتَدُّ به في قرار المَنْح لمنحوها لرجلٍ أعظم شأناً من الجائزة نفسها، ومن مانحيها، ومن نوبل نفسه؛ وهذا الرجل هو كارل ماركس، الذي عاد الطلب على "أسهمه الفكرية" يقوى ويشتد، فهو الآن، وبشهادة حتى خصومه، الحائز على ألقاب من قبيل "مفكِّر الألفية الثالثة"، و"أهم شخصية ألمانية على مرِّ العصور"، و"الشبح الذي عاد"، و"أعظم الفلاسفة في التاريخ".
حتى رجل الأعمال والسياسي الليبرالي الشهير جورج سوروس تحدَّث عن ماركس قائلاً: "لقد قرأتُ ماركس، فاكتشفتُ كثيراً من الصواب في فكره".
إنَّ الطلب على هذا الرجل يقوى ويشتد الآن، وكأنَّ العالم المثخن بجراح الأزمة المالية والاقتصادية العامة للرأسمالية يتوفَّر الآن على إعادة اكتشاف ماركس، وعلى استعادة الاهتمام به؛ ونحن لو صرفنا النظر عن عداء ماركس للرأسمالية، لاكتشفنا أنَّه "الوعي الحقيقي" للنظام الاقتصادي الرأسمالي، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وكأنَّ الرأسمالية لم تَعِ ذاتها على خير وجه إلاَّ من خلاله.
ولا شكَّ في أن انهيار الاتحاد السوفياتي قد أسدى خدمة جليلة إلى ماركس، الذي كان في أحسن تقويم فجعلته موسكو الحمراء أسفل سافلين.
المنافحون الآن عن الرأسمالية يقولون إنَّ ما أصابها، انطلاقاً من "وول ستريت"، لا يعدو كونه جزءاً من "دورتها الاقتصادية الطبيعية"، ضاربين صفحاً عن أنَّ ماركس ذاته هو صاحب براءة اكتشاف تلك الدورة!
ويقولون، أيضاً، إنَّ الأزمة في الرأسمالية ليست بالأزمة التاريخية التي لا حلَّ لها، أو التي تصيب اليد الخفية للسوق الحرة بالعجز عن معالجتها وتخطيها، فالرأسمالية هي أوَّلاً ليست بالنظام الاقتصادي والاجتماعي العابر تاريخياً؛ لأنَّها، على ما أتاهم به الوحي، النظام الاقتصادي والاجتماعي الطبيعي، والعابر، بالتالي، للتاريخ؛ ولأنَّها "التاريخ في مِسْك ختامه"، فهي إذا انتهت فلن تنتهي إلاَّ إلى ولادة جديدة؛ ولأنَّ الرأسمالية هي ذاتها البديل من الرأسمالية، وخير دليل على ذلك هو موت ذلك الذي صوَّر نفسه على أنَّه البديل التاريخي من الرأسمالية.
ولكن، دعونا نبدأ من "الخبر".. من آخر خبر بثته إذاعة "نهاية التاريخ"؛ ولقد جاء فيه أنَّ "الضخ" أثرَّ تأثيراً سيكولوجياً إيجابياً، فانتعشت البورصات العالمية، وانتهى المسار الهابط لأسعار الأسهم، ليبدأ المسار الصاعد.. ثمَّ دخلت كلمة "ولكن" في سياق الخبر، فالولايات المتحدة، التي ليست بالقوَّة العظمى في العالم؛ لأنَّها أكبر من العالم نفسه، قد دخلت في "الركود"، وسجَّلت عجزاً في موازنتها الفدرالية هو الأعظم في تاريخها، أي أنَّ "الدين العام" هو الآن الأعظم في تاريخ الرأسمالية الأنجلو ـ سكسونية.
وفي بعض من الأسباب المعلنة، كان الإنفاق العسكري الهائل، وكانت الحرب في العراق وأفغانستان والتي كلَّفت الخزينة، أو دافعي الضرائب، حتى الآن، 685 بليون دولار، وكانت "خطة الإنقاذ" للمصارف والتي كلَّفت، أو ستكلِّف، دافعي الضرائب، نحو 700 بليون دولار.
وإذا كانت "الدولة" في حدِّ ذاتها، وبحسب صورتها المالية في الدستور والقانون، لا تملك شيئاً من المال لذاتها، فإنَّ مزيداً من الدمار سيلحق بالقدرات الشرائية الفعلية للمواطنين، فالعجز في الموازنة إنَّما يعني مزيداً من الضرائب، ومزيداً من نقص السيولة العامة في الصحة والتعليم..
لقد بشَّروا الآن شعبهم بـ "الركود" و"التضخم" معاً؛ ولكنهم أقسموا باسم الرأسمالية والسوق الحرة، أنَّ كل شيء سيعود إلى ما كان عليه، فالدولة ما أن يقف أباطرة المصارف المفلسة، أو المنهارة، أو المتعثِّرة، على أقدامهم حتى تبيعهم ما اشترته، عن اضطرار، من أسهم في مصارفهم.
ما تحقَّق حتى الآن إنَّما هو نجاح دولة "الشيوعيين" بوش وبولسون في "إقناع" أولئك الأباطرة بالضرورة التي تبيح، ولو مؤقتاً، المحظور؛ وهذه الضرورة هي أن تشتري الحكومة بمبلغ (250 بليون دولار) من أموال دافعي الضرائب، أي الشعب، أسهماً في بعض المصارف الكبرى المتعثِّرة، فتغدو الدولة، بالتالي، مشارِكاً (مؤقتاً) في ملكية تلك المصارف.
وبفضل هذا الإجراء، وغيره، تشجَّعت المصارف التي لديها وفرة في السيولة (الأموال) على إقراض مصارف تعاني شُحَّاً في السيولة، فتشجَّعت المصارف جميعاً على استئناف إقراضها للأفراد والشركات.
"الأحمر" بوش وعد أصحاب المصارف، الذين شاركهم ملكية مصارفهم عبر شراء الدولة لبعض الأسهم، بأنَّه سيبيعهم ما اشتراه ما أن تستقر الأسواق المالية، وما أن يجمعون ما يكفي من رؤوس الأموال من القطاع الخاص، وكأنَّ هذا التدخل للدولة هو الشر الذي لا بدَّ منه.
أمَّا "الأحمر" منه، وهو بولسون، فقد قال، والألم يعتصر قلبه، إنَّ ما قامت به الدولة، عن اضطرار، إنَّما هو إقرار بـ "الفشل". وقال أيضاً وكأنَّه يُعلِّل ويعتذر: "هذا الذي قمنا به لم نكن يوماً نرغب في القيام به؛ ولكن لم يكن لدينا من خيار، فتوقُّف المصارف عن إقراض بعضها بعضاً، وعن إقراض الأفراد والشركات، يؤدي إلى انكماش في إنفاق المستهلكين والشركات؛ وهذا الانكماش يؤدي إلى تقليص الوظائف وإغلاق الشركات"، فويل للرأسمالية إنْ تطبَّع أصحاب المصارف بطبع اكتناز الأموال في مصارفهم، مفضِّلين هذا الاكتناز على الإقراض!
إنَّه "إثم" ما بعده إثم هذا الذي تشعر به دولة بوش ـ بولسون، والتي هي ممثِّل المصلحة العامة للرأسماليين، وهي "تؤمِّم"، جزئياً ومؤقتاً، تلك المصارف "المتعثِّرة"!
الآن، شرعت المصارف الغنية بالسيولة تُقْرِض (لساعات) المصارف الفقيرة بها؛ وشرعت المصارف جميعاً، إذ وقفت "الدولة" بكل ثقلها إلى جانبها وهي تَقْدِم على مغامرة الإقراض، تُقْرِض الأفراد والشركات، فهل يأتي الواقع بنتائج لا تذهب بتوقُّعهم؟
الأموال الآن، وبعضها أصبح مالاً عاماً، أي من أموال دافعي الضرائب، شرعت تخرج، على شكل قروض وديون، من المصارف إلى أيدي الأفراد (ليشتروا منازل وسيارات..) والشركات الصناعية والتجارية..، فهل ترجع، بعد حين، إلى المصارف وقد نمت أم سنسمع المُقْرضين ومعهم دولة بوش ـ بولسون، يصرخون: "لقد خرجت ولم تَعُدْ"؟!
هذا السؤال الذي يتحدَّانا أن نجيبه يقودنا إلى التعمُّق في البحث والتحليل، توصُّلاً إلى معرفة حقيقة الأزمة، وعمقها، وأبعادها.
تخيَّل أنكَ في طائرة تطير فوق النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي، فماذا يمكنك أن ترى؟
سترى أوَّلاً "البيئة الطبيعية والجغرافية" التي فيها يقيم النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي؛ وسترى، أيضاً، "البيئة الاصطناعية"، أي كل شيء أنتجه وصنعه البشر من خلال العمل، كالمصانع والموانئ والطرقات والمباني..
ولو بسَّطْنا "المشهد".. مشهد "البيئة الاصطناعية"، والتي عبرها يتفاعل البشر مع الطبيعة، أو "البيئة الطبيعية"، لرأيْنا الاقتصاد برمته على هيئة أشياء هي البضائع أو السلع.. لرأينا، مثلاً، الأجهزة الكهربائية، والمواد الغذائية، والسيارات، والأثاث.
ومع كل هذه الأشياء، التي تتكوَّن منها "البيئة الاصطناعية"، والتي يمكن تسميتها "الاقتصاد الحقيقي"، أو "الثروة الحقيقية"، نرى أيضاً أكواماً من الورق تسمى "النقود".
لو سألْت ليبرالياً ذكياً "ما هي الخادمة (في المنازل)؟"، لأجابك على البديهة قائلاً "إنها امرأة من سريلانكا أو الفلبين..". ولو سألْته "ما هو رأس المال؟"، لأجابك على البديهة قائلاً "إنَّه عصا ولو كانت في يد قرد". ولو سألْته "ما هو النقد؟"، لأجابك على البديهة قائلاً "إنَّه الذهب".
إنَّ المرأة السريلانكية هي امرأة، ولكنَّها "تصبح" خادمة في ظروف معيَّنة؛ وإنَّ العصا هي عصا، ولكنَّها "تصبح" رأسمالاً في ظروف معيَّنة؛ وإنَّ الذهب هو الذهب، ولكنَّه "يصبح" نقداً في ظروف معيَّنة.
قد يعرِّفون "الرأسمال" على أنَّه "مال ينمو"، أي "مال يأتي بمزيد من المال". ولكنَّ المال الذي نعرف الآن هو "ورق"، هو في حدِّ ذاته عديم القيمة الاقتصادية، وهو من تلقاء نفسه لن يتكاثر أبداً.
هذا المال قد "يصبح" رأس مال إذا ما استوفى شروطاً معيَّنة.. إذا ما انتقل إلى "الإنتاج"، وإلى "الاقتصاد الحقيقي".
حتى يتحوَّل المال الورقي إلى رأسمال، وإلى مولِّد لثروة حقيقية، لا بدَّ له أوَّلاً من أن يتحوَّل إلى بضائع (حقيقية) أي إلى آلات ومواد أولية ووقود وأبنية..
ولا بدَّ له، تالياً، من أن يأتي بـ "بضاعة أخرى" هي اليد العاملة، أو قوة العمل، إلى المصنع، لتتولى تشغيل الآلات، وإنتاج شيء ما، أو بضاعة ما.
هنا، وهنا فحسب، يتحوَّل "المال" إلى "رأس مال"، ويصبح ممكناً أن يولِّد ثروة حقيقية.
ولو جئتَ بمال العالم كله، أي بكل ما يملك من نقود ورقية، كالدولار واليورو والين والجنيه الإسترليني، و"استثمرته" في غير هذا المكان والموضع فلن يُنْتِج أبداً "ثروة حقيقية" للمجتمع.. لن يضيف أبداً، ولو أقل مقدار، إلى "ثروته الحقيقية"؛ مع أنَّ "اللعبة" هنا تفضي دائما إلى رابحين وخاسرين، فالرابح هنا إنَّما يربح بما يعدل خسارة الخاسر، الذي يخسر بما يعدل ربح الرابح.
ثمة مبدآن قام عليهما الفكر الاقتصادي الكلاسيكي، ولا ريب في صوابهما. المبدأ الأول هو أنَّ تبادل البضائع لا يعدو كونه تبادلاً لـ "قيم (اقتصادية) متساوية"؛ والمبدأ الثاني هو أن اليد العاملة سلعة كسائر السلع.
ولكن، ما معنى "تساوي القيم"؟ معناه الذي لا ينكره حتى الاقتصاديين الليبراليين هو "تساوي كمية العمل"، فمبادلة سلعة بسلعة إنَّما يعني أنَّ كلتيهما تساوي الأخرى لجهة كمية العمل التي تشتمل عليها.
إذا كانت عبقرية نيوتن تكمن في كونه تساءل عن السبب الذي يجعل التفاحة تسقط إلى الأرض ولا تصعد إلى أعلى عند انفصالها عن شجرتها، فإنَّ عبقرية ماركس تكمن في كونه تساءل عن مَصْدَر "الربح" في النظام الرأسمالي إذا ما كان تبادل البضائع تبادلاً لقيم متساوية.
بحسب هذا المبدأ يجب ألاَّ يكون من وجود لـ "الربح" في النظام الرأسمالي؛ ذلك لأنَّ قيمة البضائع التي ينتجها المصنع يجب أن تعدل قيمة البضائع التي اشتراها رب العمل، أي قيمة المستهلَك من الآلات والمواد الأولية والوقود والبناء، مضافاً إليها قيمة قوة العمل التي يعبَّر عنها بالأجر الذي يتقاضاه العامل.