اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول : ليس في الجن أنبياء ورسل ، وإنما قد يكون منهم نذر ، وهذا قول جمهور أهل العلم ، واستدلوا على ذلك بأدلة عدة :
1-قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) يوسف/109.
2-قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ ) الفرقان/20.
3- قوله تعالى عن إبراهيم الخليل عليه السلام : (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) العنكبوت/27.
يقول القرطبي رحمه الله :
" وإنما الرسل من الإنس دون الجن " انتهى.
" الجامع لأحكام القرآن " (17/163)
ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) الجن/29:
" وقد استدل بهذه الآية على أنه في الجن نُذُرٌ ، وليس فيهم رسل ، ولا شك أن الجن لم يبعث الله منهم رسولا – ثم استدل لذلك بالآيات السابقة - " انتهى.
" تفسير القرآن العظيم " (7/302)
وهذا القول هو الذي قرره جمهور المفسرين في كتبهم .
ينظر : " مفاتيح الغيب " (13/160)، " تفسير البيضاوي " (2/453)، " البحر المحيط " (4/225)، " زاد المسير " (3/125)، " أضواء البيان " (1/493) .
وهو ما قرره ـ أيضا ـ شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (4/234)، والسبكي في " الفتاوى " (2/618) دار المعرفة، وابن أبي العز في " شرح الطحاوية " (166)، والسفاريني في " لوامع الأنوار البهية " (2/223-224) ، وغيرهم .
واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ، والشيخ ابن جبرين رحمه الله في شرح الطحاوية ، وكذا الدكتور عمر الأشقر في " عالم الجن " (43-44)
القول الثاني : في الجن من الأنبياء والرسل من جنسهم ، وهذا رأي مقاتل ، والضحاك – كما رواه عنهما ابن جرير الطبري رحمه الله في " جامع البيان " (12/121) ، وذكر الخلاف في المسألة - وهو قول ابن حزم رحمه الله في " المحلى " (7/494) حيث يقول : " صح يقينا أنهم بعث إليهم أنبياء منهم " انتهى.
واستدلوا لذلك بقول الله تعالى :( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ) الأنعام/130.
وقد أجاب عن هذا الاستدلال الحافظ ابن كثير رحمه الله بقوله :
" فأما قوله تعالى في سورة الأنعام : ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ) الأنعام/130، فالمراد من مجموع الجنسين ، فيصدق على أحدهما وهو الإنس " انتهى باختصار.
" تفسير القرآن العظيم " (7/302) .
والراجح هو قول جماهير أهل العلم أنه ليس في الجن نبي ، لصراحة أدلتهم ، وأما دليل أصحاب القول الثاني فهو محتمل يمكن الجواب عليه بما سبق .
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله السؤال الآتي :
" هل أرسل من الجن رسول ؟ وما رأيكم بمن استدل بقوله تعالى : ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ) الأنعام/130، على أن الجن أرسل منهم رسول ؟
فأجاب :
لا ؛ لأن الله تعالى قال : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) الحديد/26، والجن ليسوا من ذرية نوح ولا إبراهيم ، فليس منهم رسول .
وأما قوله تعالى : ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ) الأنعام/130، فقالوا : إن الخطاب للمجموع وليس للجميع ، فهو يخاطب الجمع كله ويقول : ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ) المراد : من أحد الجنسين ، يتعين حمل الآية على هذا ؛ لأن النصوص الأخرى دالة على أن الرسل من بني آدم ، على أنه يمكن أن يراد بالرسل النذر ، ويكون المراد برسل الجن النذر مثل الذين ولوا إلى قومهم منذرين ( قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ) الأحقاف/30 " انتهى.
والله أعلم .