ما هي التجربة النقدية عند عبد المالك مرتاض في كتابه أين ليلاي ؟



0      0

1
صورة المستخدم

Netwimi

مشترك منذ : 11-02-2012
المستوى : مساهم
مجموع الإجابات : 76
مجموع النقاط : 94 نقطة
النقاط الشهرية : 0 نقطة

Netwimi
منذ 12 سنة

تندرج جلّ ممارسات الدكتور عبد الملك مرتاض النقدية في إطار ما يُعرَف بـ"تحليل الخطاب"؛ سواء أكان هذا الخطاب قديماً أم حديثاً أم معاصراً، شعرياً أم نثرياً، فصيحاً أم شعبياً، دنيوياً أم دينياً. وهذا ما يؤكد شمولية نقود الرجل، وانصبابها على مختلِف أنواع النص. ويخرج متصفح هذه الدراسات بخلاصة أساسية مفادُها أن صاحبها كان – وما يزال – ناقداً منهاجياً بامتياز. وقد احتفل بالمسألة المنهجية احتفالاً بالغاً على امتداد أربعة عقود من الزمن تقريباً. وبمُكْنَتِنا تلمُّس هذا الاحتفال من خلال الملاحظات والأمور الآتية:

يحرص الناقد على استهلال دراساته بحديثٍ عن الإشكال المنهاجي بعامة، وعن الخيار المنهاجي الذي يتغيّى الأخْذ به في كل دراسة بخاصة. وهو يفعل ذلك لوعيه بأهمية المنهاج وخطورته معاً في الدراسة الأدبية الحديثة.

من المسَلَّمات بها بين الدارسين أنه لا وجود لمنهج كامل، مثالي، صالح لأنْ ندرس به كل النصوص على اختلافها، بل إن المناهج تظل اجتهادات، فردية أو جماعية، ذات مزايا، وفي الوقت نفسِه تُسَجَّل عليها مآخذ. ومن هنا، فإنه "من السذاجة الساذجة أن نعتقد بأنّا قادرون على تأسيس منهج ما، ثم نحمله إلى نص أدبي لنحلله بمقتضى إجراءاته، بكفاءة ونجاح. ذلك بأن كل نص أدبي يمْثُل لنا تحت شكل طبَق لا يشبه النص الآخر إلا توهُّماً، أو من بعيد؛ إذ حين نتعمّق القراءة، ونُطيل النظر فيه، سيتبيّن لنا، حتماً، أن هذا النص مختلفٌ عن ذاك، وذاك عن هذا."(1) ويقرّ مرتاض بـ"حتْمية تفرُّد كل نص بمنهج قراءة خاصّ به."(2) وبتعبير آخر، فإن "كل نص أدبي يفرض على دارسه منهجه المستقلّ... فللنص القصصي منهج، وللنص الشعري منهج، وللنص المسرحي منهج، وهلم جرّاً... فلا سواء نص أدبي قوامُه الشخصيات والحوادث، ونص أدبي آخر قوامه التجريد والتأمل..."(3) ولاعتقاده بعدم وجود منهج كامل لا يأتيه النقص من بين يديه ولا من خلفه، فقد دعا إلى عدم التعصُّب لمنهج على آخر قائلاً: "من الأمْثل التزام الحيطة وعدم التعصب لمنهج على آخر، واختيار طريق للبحث مفتوح... لأن المنهج الكامل لَمّا يُولَد."(4)

ويذهب مرتاض إلى أن من شأن تعرُّف المنهج المعتمَد في دراسةٍ مّا أن يجعلنا نتوقع طبيعة نتائجها جودةً وضآلةً، وعمقاً وسطحاً... يقول: "ما أكثر ما يردّد الجامعيون... أن المنهج هو الذي يحدد، وسلفاً في الغالب، طبيعة نتائج بحثٍ من البحوث، أو إجراء من الإجراءات؛ وهو أمْرٌ واردٌ حقاً؛ إذ بدون تحديد منهج، وبدون اصطناع الصرامة العلمية ما أمْكن في هذا المنهج، فإنه لا ينشأ عن هذا الجهد المبذول في السعْي إلا نتائج ضئيلة، بل ربما تكون مُخالِفة لأصول العلم."(5) وعلى الرغم من أهمية الصرامة المنهجية، فإن مرتاضاً يلحّ على ألاّ تكون صارمة إلى أبعد الحدود صرامةً تجعل القارئ خاضعاً لإجراءات المنهج الصارم خضوعاً بالغاً، وكأنه حقيقة مطلقة، وتفقده شخصيته التي يلزم أن تحضر في نقوده. يقول: "إننا بدون المنهج الصارم، في الحقيقة، لا نستطيع أن نقرأ؛ لكننا أيضاً بالخضوع المتبلِّد القاصر لمِثل هذا المنهج، نَسْتلب حريتنا منا، ونتقيّد بقيود تكبّلنا؛ فلا نستطيع أيضاً أن نقرأ قراءتنا الخاصة بنا؛ أي إننا لا نستطيع أن نبدع في هذه القراءة طالما رَمَيْنا بأنفسنا في مُسْتَنْقَع إجراءات هذا المنهج."(6)

عبد الملك مرتاضشهد المسار النقدي لمرتاض تطوراً ملحوظاً على المستوى المنهاجي. إذ بدأ الباحث ممارسته النقدية انطباعياً تاريخياً، فبنيوياً أسلوبياً، ثم سيميائياً تفكيكياً. بمعنى أنه مرَّ بمرحلتين منهجيتيْن؛ أولاهما طور "النقد التقليدي"، وهي قصيرة، وثانيتهما "النقد الحَداثي"، وخلالها ركز الناقد على النص. وللدارسين أقوالٌ في تحديد الفيْصل بين المرحلتين، على أن كثيرين منهم يجعلون كتاب "النص الأدبي: من أين؟ إلى أين؟" علامة فارقة بين نقد تقليدي وآخر حداثي نصّي في ممارسات مرتاض النقدية. ولكن الصواب غيرُ ذلك، إذ إن التحول من النقد الأول إلى النقد الثاني تم، فعلياً، عبر النص الشعبي لا النص الفصيح. فلْنستمعْ إلى مرتاض، وهو يقول في حوارٍ أجْرِي معه: "انزلقتُ إلى المنهج الحديث من خلال تعامُلي مع النص الشعبي، فكان أول عمل تجْريبي قمتُ به في التعامل مع النص هو كتابي "الأمثال الشعبية الجزائرية"... ثم "الألغاز الشعبية الجزائرية"..."(7) ولا ريب في أن هذا التحول كان مسبوقاً بإرهاصات تعود إلى ما قبل الأعوام الثمانين، وهو ما قد نستشفّه من قول مرتاض: "لما تسجَّلت في السوربون تحت إشراف الأستاذ أندري ميكائيل كان لا مناص من تغيير جلدي، دون تغيير جوهري وهُويتي. فكانت سنة ست وسبعين... الفترة الحاسمة في حياتي العلمية: بين التراث وجماله، وعمقه، وأصالته،... وبين الحداثة بما فيها من ضَبابية، وجمال الشكل، وصرامة المنهج، ثم بما فيها خصوصاً من القلَق المعرفي."(8) يسعى مرتاض، منذ أمدٍ بعيد، إلى تجريب المناهج الغربية الحداثية في قراءة نصوص عربية مختلفة زماناً وجنساً. لأنها تؤدي، في نظره، حتماً "إلى إنتاج معرفة، بل ربما إلى إنتاج نظرية جديدة للمعرفة، على أنقاض ما فُكِّك... من بناء المعرفة القديمة"(9). ولا يتعامل الناقد مع هذه المناهج تعاملاً آلياً، فيطبِّقها بجذاميرها في قراءة النص العربي الذي يمتاز بخصوصيات معينة. بل ينتقي منها ما يراه أصلح وأنسب لهذا النص، ويجتهد في تطويعها وتكييفها مع البِيئة الثقافية العربية. ثم إن انشغاله الكبير بمناهج الحداثة الغربية لم يُنْسِه قطّ الاحتفال بما يزخر به التراث العربي من مقوّمات نقدية ومعالم منهاجية. إذاً، فالتجربة النقدية المرتاضية تزاوج بين الأصالة التراثية وبين الحداثة الغربية المعاصرة على نحو متكاملٍ. ولعلنا لا نُجانِف جادّة الصواب إذا قلنا إن هذه الأصالة "لقاح نقدي" يجعل ناقدنا مُمَنَّعاً من تأثيرات المناهج الحداثية، ويُكْسِبه قدرةً على التعامل مع هذه المناهج بوعي سليم، وذوق صميم.

يَلْحَظ القارئ أن دراسات مرتاض الأولى كانت تنقسم إلى جانب خاصّ بدراسة الشكل، وآخر خاص بمعالجة الفكرة أو المضمون. وهذه الثنائية رانت على النقد العربي أرْداحاً متطاولة من الزمن، ومازال بعضُ ناقدينا المعاصرين، للأسف الشديد، يعتمدونها في قراءاتهم. إن النص الأدبي صياغة ومضمون، دالّ ومدلول، ظاهر وباطن. وإن ارتباط أحدهما بالآخر كارتباط الجسد بالروح؛ إذِ الجسدُ بلا روحٍ جثة هامدة، والروح بلا جسدٍ وهْم وسَراب. ومن هنا، نقول إن صلة الشكل بالمضمون عضوية لا تقبل الانفصال ولا الفكاك. وقد زَكِنَ مرتاض هذا الأمرَ، فأقلع عن معالجة النص وَفق شكله ومضمونه، مُستعيضاً عنه بما دَعاه "الإجراء المُسْتوياتي" الذي يتيح قراءة النص من جميع زواياه، ابتغاءَ تكوين صورة شاملة عنه. ولا يعني وقوف مرتاض عند كل مستوىً من مستويات النص، محللاً ودارساً، أن الرجل يعود، من حيث لا يشعر، إلى تقسيم النص كما كان يفعل النقاد التقليديون، بل إنه يعْمِد إلى ذلك لغاية منهاجيةٍ فحسبُ، ويروم، من ورائه، السيطرة على النص المعروض للقراءة، وإلا فالنصُّ كُلٌّ (Un tout) لا يقبل التجزيء بأي حال من الأحوال.

يزاوج مرتاض بين التنظير والممارسة في أغلب كتبه. وعادةً ما يبدأ بالعمل التنظيري، ليُرْدِفه بالتطبيقات. وهو بذلك يَختبر ما نظَّر له في معالجة النصوص. وفي أحايينَ كثيرةٍ، يجنح مرتاض إلى المزْج بين الأمْرَين مزجاً في نطاق واحد. ويتفاوت حضور التنظير والتحليل قوة وضَعفاً في دراسات مرتاض؛ ذلك بأن له كتباً يهيْمن فيها التطبيق على التنظير، وأخرى يغلب عليها الهَمّ التنظيري. بل إن له دراساتٍ تسير في ركاب التنظير جملة وتفصيلاً، كما هو الشأن بالنسبة إلى عمله الرائد حول نظرية الرواية الذي صدر ضمن سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية.

دعا مرتاض إلى التركيب المنهاجي نظرياً، وطبَّقه عملياً في كثير من دراساته. يقول: "إن التعددية المنهجية أصبحت تشيع الآن في بعض المدارس النقدية الغربية، ونرى أنْ لا حرج في النهوض بتجاربَ جديدةٍ تمضي في هذه السبيل بعد التخَمة التي مُنِي بها النقد من جرّاء ابتلاعه المذهب تلوَ المذهب، خصوصاً في هذا القرن أي القرن العشرين"(10). ويرى الناقد عَيْنُه أن "تهجين أي منهج أمر ضروري لتنشيط أدواته، وتفعيل إجراءاته؛ كيْما يغتدي أقدرَ على العطاء والتخصيب"(11). ولا يجب أن يتبادر إلى أذهاننا أن هذه الهجانة المنهاجية أو القراءة المتعددة مسألة يسيرة، بل إنها "محفوفة بالمخاطر والمزالق، إذ تتطلب من مُنجِزها المشاركة في كثير من العلوم"(12)، والاطّلاع على زخمٍ من المفاهيم والنظريات والمناهج. ولا مناص من الإشارة في هذا المقام إلى أن التركيب المنهاجي غيرُ التلفيق. فالأولُ يقتضي الجمْع بين منهجين أو أكثر للحصول على مزيج منهاجي مُنْبَنٍ على "توحُّد ابستمولوجي" على حدِّ عبارة د. محمد مفتاح(13). وهو بذلك يضْمن قراءة النص قراءة شمولية دقيقة. على حين أن التلفيق محصّلة من المناهج والمفاهيم، غير خاضعة لتصور مبدئي ولا لنسَق موحد.