ثرت في الآونة الأخيرة الدراسات في العالم كله حول الأطفال وما يتعرضون له في مختلف أنحاء العالم من مشكلات، وأهم تلك المشكلات التي يتعرض الأطفال لها التشرُّد وإهمال الأهل وبيع الأولاد تحت ضغوط الفقر والحاجة على أهليهم، وسوء استخدامهم في أعمال شائنة أو شاقة. وهؤلاء الأطفال الذين يتعرضون إلى ما ذكرنا يغلب أن تكون المناطق التي ينتمون إليها مناطق عربيَّة إسلاميَّة، فهناك البلاد التي نُكبت بالحروب؛ مثل: أفغانستان والعراق والصومال والسودان، ومناطق أخرى تشرَّد كثير من الأطفال فيها نتيجة الحروب والفتن الداخليَّة، وتشتُّت أسرهم أو مقتل معيليهم في الحروب الأهليَّة، ولم تكن في تلك البلدان مؤسَّسات تستطيع استيعاب تلك الأعداد الكبيرة من المشرَّدين.
وهناك مصادر أخرى لأطفال الشوارع، مثل: العلاقات الجنسيَّة المحرَّمة التي تُلقي على كاهل الأم غالبًا مسؤوليَّة رعاية أطفالها من الزِّنا، ويغلب أن يكون هذا النوع من الأمهات ممن لا يستطعن تحمُّل مسؤوليَّة أطفال لا يُعرف آباؤهم، أو تخلَّوا عنهم لأسباب عديدة، فيكون الأطفال المواليد ضحية أخطاء وانحرافات والديهم، فقد تلقي الزانية بطفلها في الشارع أو عند محل عبادة إذا لم تجرؤ على قتله، والتخلُّص من مسؤوليَّته، أو من العار الذي تخشاه في بعض البيئات.
ومهما يكن من أمر فإنَّ المؤسسات الدينيَّة لبعض الطوائف في الغرب قد وجدت في ذلك فرصة، حيث تتبنَّى أعدادًا كبيرة من هؤلاء المشرَّدين، خاصَّة من أبناء شعوب مسلمة، وتلتقي مصلحة تلك المؤسَّسات الدينيَّة وأهدافها مع المصلحة السياسيَّة للبلدان الخاصَّة التي تنتمي تلك المؤسَّسات إليها، وتتفق كلمة رجال الدين ورجال الاستعمار على العمل -معًا- لتكوين أجيال تتبع تلك المؤسَّسات الدينيَّة، ثم يعودون إلى بلادهم بعد فترة ويُسَاعَدون ويُعَاونون على تسلُّم مراكز هامَّة في دولهم، وبذلك يضمنون مجموعة كبيرة من المصالح في المستقبل!!
من المعروف أن الشعب الكرديَّ -في العراق خاصَّة- كله -ما عدا قبيلة واحدة- شعب مسلم سنِّيٌّ، يتمذهب بالمذهب الشافعيِّ، ولم يكن يوجد عبر تاريخ الكرد العراقيِّين نفر واحد يدين بغير الإسلام. والعشيرة المستثناة هي قبيلة الفيليَّة من الأكراد، وهي الوحيدة من بين قبائلهم قبيلة مسلمة يتمذهب غالبيَّتها بالمذهب الشيعيِّ، ومنذ السبعينات من القرن الماضي ضمَّت أعداد من المؤسَّسات الدينيَّة الغربيَّة في أمريكا وأوروبا كثيرًا من الأيتام الأكراد الذين تمت تنشئتهم على أديان تلك المؤسَّسات، وقد بلغوا الآن مبلغ الرجال، وعلى أيديهم الآن تجري عمليَّة تحويل دينيٍّ في شعبهم المسلم السنيِّ الشافعيِّ لا عهد للشعب الكرديِّ به!! وكذلك الحال بالنسبة لأفغانستان ومالي وبنجلاديش.
إنَّ هناك بلدانًا أفريقيَّة كثيرة تراجع عدد المسلمين فيها تراجعًا مخيفًا نتيجة تلك الأعمال والجهود، وحين شاهدنا بعض تلك الجهود في الولايات المتحدة هالنا الأمر، وتدارسناه من زوايا عديدة بوصفنا أقليَّة مسلمة تعيش في تلك البلاد، فوجدنا لدى المسلمين إمكانيَّات كبيرة، لو وُجِّه جزء يسير منها إلى العناية بأطفال المسلمين وكفالة أيتامهم ومشرديهم لما شاهدنا تلك الظاهرة المريعة التي ستكون لها آثار خطيرة في مستقبل الشعوب المسلمة، وحينما خاطبنا جهات إسلاميَّة شعبيَّة وحكوميَّة كثيرة بضرورة عمل شيء، قالوا: "ليست هناك وسيلة يمكن الاعتماد عليها في هذا المجال إلا التبنِّي، والتبنِّي في الإسلام ممنوع".
فقلنا لهم: لا جدال في تحريم القرآن الكريم للتبنِّي، ولكنَّه حضَّ وحث على كفالة الأيتام، ورسول الله اعتبر كافل اليتيم مصاحبًا له في الجنة، وقال الحديث المشهور: "أنا وكافل اليتيم كهاتين"، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى، فماذا لو أنَّ المسلمين وأغنياءهم والدول البتروليَّة خاصة، وأسعار البترول تشهد ارتفاعًا لافتًا للنظر -بعد هيمنة أمريكا على بترول العراق- فماذا لو رصدت هذه الجهات بعض الأموال «واحد في المائة» مثلاً وكلَّفت بلدانًا مسلمة لديها قدرات تربويَّة وطاقات تعليميَّة كبيرة، وقد ترحِّب بكفالة الأيتام والعناية بهم لو وجدت المؤسَّسات والنفقات اللازمة لذلك، مثل: مصر والمغرب والجزائر والسودان واليمن وتركيا وأمثالها، فهذه البلدان لو خصصت الدول البتروليَّة لها واحدًا في المائة من أرباح البترول لتأسيس ملاجئ ومدارس داخليَّة يقوم عليها تربويُّون ومربِّيات أكفاء لتنشئة هذه الآلاف المؤلفة من الأيتام وكفالتهم وفقًا لشريعة الله، وحمايتهم حاليًا من التشرد، أو الوقوع في براثن تلك المؤسَّسات وحماية بلاد المسلمين من معضلات مستقبلة في غاية الخطورة. لقد شاهد الكثيرون منا فيلم «أولاد الشوارع»، وقبل ذلك المسلسل الذي تناول المشكلة في المستوى القطري المصري، وكشف المسلسل والفيلم عن وجود مليونين من «أولاد الشوارع» في مدينة كبرى واحدة من عواصم العرب والمسلمين، هؤلاء يمثِّلون ثروة إسلاميَّة وعربيَّة ومصريَّة.
وخطط التنمية موجودة في سائر البلدان العربيَّة والمسلمة، وتنمية الإنسان أهم وأخطر من سائر جوانب التنمية، فلِمَ لا ندرج «كفالة الأيتام والمشرَّدين» في خطط التنمية؟ ومن المعلوم أنَّ أهم أنواع التنمية، وأكثرها أهميَّة وعوائدًا هو الاستثمار في الإنسان، فلِمَ لا نستثمر في إنساننا؟
إنَّ من الممكن إيجاد نوع من التعاون الوثيق بين جامعة الدول العربيَّة ومنظمة المؤتمر الإسلاميِّ ووزارات الشؤون الاجتماعيَّة ومؤسَّسات أخرى تتصل اهتماماتها بهذا الموضوع. كما يمكن الاستفادة من ذوي خبرة في هذا المجال، مثل الأمير طلال بن عبد العزيز وأمثاله، لوضع أوراق العمل والخطط التفصيليَّة الملائمة لمعالجة هذه الظاهرة وتحقيق هذا الهدف الضروريِّ النبيل.
والمضحك المبكي أنَّ أموال المسلمين في البنوك الأجنبيَّة تُعَدُّ من المصادر الهامَّة في تمويل هذه العمليَّات في الغرب، فإنَّ البنوك في أمريكا وأوروبا، ممنوع عليها الاحتفاظ بأموال الفوائد التي يتركها أصحابها، وتفرض الحكومات عليها منح هذه الأموال إلى تلك المؤسَّسات المذكورة، سواء أكانت فوائد أموال أفراد يتعفَّفون عن تسلم فوائد أموالهم باعتبارها مندرجة في الربا المحرَّم عندهم، أو حسابات سريَّة يموت أصحابها ويتعذَّر على أهليهم الوصول إليها، فتترك الفوائد للبنوك، ثم صار بعض الحكام يستولون عليها، كذلك كانت تفعل بعض الحكومات؛ ولذلك فإن هناك مئات الملايين من الدولارات تذهب سنويًّا لدعم تلك المؤسَّسات صائدة الأطفال من أموال المسلمين، وبذلك يخسر المسلمون أبناءهم بأموالهم.
لقد فوجئ الكثيرون بحادث سرقة أطفال مسلمين من أبناء "دارفور وتشاد" ليسوا بأيتام، فمعظمهم لديهم أسرهم وآباؤهم، ومع ذلك فقد جرت محاولة اختطافهم إلى فرنسا. وإذا كانت هذه المحاولة قد كُشفت فكم هي المرات التي لم تُكتشف، وصار أولئك الأطفال المسلمون تحت رحمة تلك المؤسَّسات والأسر المنتمية إليها؟ فهل تتحرك المشاعر الخيِّرة المؤمنة لإنقاذ أبناء الأمَّة ومستقبلها؟! والحيلولة دون بيع إنسانها، والاتجار به؟!
لقد كشفت التقارير الخاصَّة في الآونة الأخيرة أنَّ هناك شركات أو عصابات احترفت سرقة الأطفال والاتّجار بهم لمختلف الأغراض الخبيثة، فكيف تتعاون الشعوب والحكومات والأمم المتحدة وبقيَّة المنظمات الدوليَّة والإقليميَّة على إنقاذ الأطفال، والحيلولة دون إعادة الرِّقِّ وإحياء جريمة الاسترقاق بأساليب خبيثة جديدة