الإرسال الخفي: فهو رواية الراوي عن الشيخ الذي لقيه، ولكنه لم يسمع منه شيئاً([2])، فمن الممكن أن يلقي الراوي شيخه، لكن شيخه ليس مستعداً لتحديثه، أو به شُغل يحول دون عقدِه لمجلس من مجالس الحديث كالإملاء أو العرض، أو غير ذلك، فهذا اللقاء لا يفيد شيئاً، وهذا الإرسال مع اللقاء يكون خفيّاً([3])، واعلم أن من العلماء من يعبر باللقاء على السماع فيقولون: «فلان لقي فلاناً» أي: سمعه([4]).
وإذا قرأت في كتاب «تهذيب التهذيب» – مثلاً – فإنَّه يأتي للمترجَم له، ويقول: روى عن فلان، وفلان، وروى عنه فلان وفلان، ويذكر تلامذته وشيوخه، والأصل في ذلك أنّه إذا لم ينص الحافظ ابن حجر – رحمه الله – أو أحد الأئمة على أنَّ الراوي المترجم له لم يسمع من الشيخ الفلاني، أو تلميذه الفلاني لم يسمع منه. فالأصل في الراوية اللقاء، والسماع، والاتّصال.
الشاهد من هذا: أنَّ الإرسال الخفي هو رواية الراوي عن الشيخ الذي لقيه ولكنّه لم يسمع منه شيئاً.
وبهذا نأتي إلى تعريف التدليس: وهو رواية الراوي عمن سمع منه بعض الأحاديث سماعاً صحيحاً، لكنّه سمع بعض الأحاديث الأخرى عنه بواسطة، وروى الحديث مسِقطاً للواسطة بصيغة توهم السماع([5])، ولذلك نجد كثيراً من العلماء قد عابوا التدليس، ولم يعيبوا الإرسال، فبينما نجد شعبة يقول: «لأن أزني أحبُّ إليَّ من أن أدلس»([6]).
ونجد عبدالرزّاق يأتي عند أستار الكعبة، لما وجد أن المحدثين لا يأتون إليه، ثم يتضرّع إلى الله – عزّ وجلّ – فيقول: يارب! لماذا هذا؟ هل أنا مُدَلِّس، هل أنا كذا، هل أنا كذا؟([7]).
ووكيع الذي روى حديثاً فقيل له: من الذي حدّثك به؟ قال: يا هذا إنّا لا نستجيز التدليس في الثوب، فكيف نستجيزه في الدين؟([8]) وغير ذلك من النصوص التي جاءت عن علماء الحديث في التشنيع على المدلسين، فوجدناهم يشنعون على المدلسين، ولم نجدهم يشنعون على الذين أرسلوا، بل يقولون: فلان عن فلان روايته مرسلة، وفلان مراسيله من مراسيل الصحابة، إلى غير ذلك.
فما وجدناهم يذمون الذين يرسلون، نعم، لأنَّ الذين يدلسون يُلبِّسون على غيرهم، والتدليس ضرْبٌ من الإيهام، أي فيه إيهام للسامع، فلمّا كان المستمع يعلم أنَّ هذا الشيخ قد لقي الذي يروي عنه، وسمع منه، فإنّه يحمل هذه العنعنة أو ما في معناها على السماع، أمَّا التلميذ إذا كان يعلم أنَّ هذا الشيخ لم يدرك أو لم يلق الشيخ الذي يروي عنه؛ فلا إيهام ولا تضليل عليه.
فمن قال الآن: قال ابن عباس – رضي الله عنهما – قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كذا وكذا، هل يدخل في خاطر أحد أنه يدلس عن ابن عباس؟! فمن المؤكد أنه لم يلق ابن عباس، ولا سمع، فالإيهام والتضليل والغش منفي هنا، فلا يستحق في هذه الحالة الذم، أمّا إذا أتي إلى شيخ قد عُلِم سماعه منه، ورحلته إليه، ثم يقول: قال الشيخ كذا، وكذا، فيستنكر أحد من الجالسين، ويقول: هل أنت سمعت منه؟ ونظراً للعدالة والأمانة، فإنه يقول: لا، لكن حدّثني فلان، فمن هنا يبدأ الطالب، فيخاف من الكلمة التي فيها إيهام، وليس فيها تصريح بالسماع.
فحري بأن يُذم المدلسون، وأن لا يُعامل الذي أرسل بما يُعَامل به المدلسون، والله أعلم.