الجدوى من الفلسفة
شايع بن هذال الوقيان
يذكر أفلاطون أن الشيخ العجوز طاليس، والذي بدأت به الفلسفة، كان تواقاً لمعرفة ما يجري في السماء والكون، فلم يعد ينتبه لما تحت قدميه، فوقع في حفرة.. وهو ما أثار ضحك الفتاة التراقية الجميلة التي كانت تراقبه وتسخر منه أمام شقراوات تراقيا (1)
يعلق أفلاطون "إن الفيلسوف سيظل دوماً موضع الضحك، لا من الفتيات وحدهن، بل من أغلب الناس بوجه عام"(2)
من المؤكد أن الفلسفة ليست من السهولة بحيث تكسب ودّ ورضا أغلب الناس، فهي من حيث كونها ممارسة نظرية، كما يقول التوسير، تستعصي على العقول غير المهيأة لهذا اللون من التفكير، حتى أضحى النفورُ منها عادةً تواكب كلَّ طرحٍ فلسفي الطابع. والفلسفة - لكي أكونَ واضحاً - لا تفهم إلا بالفلسفة ذاتها ولا تدرك فائدتها وجدواها إلا لمن جدّ في تحصيلها وخبر طرائقها واكتسب مهارةً في قراءتها وفهمها من خلال تدريب الذهن وإعداده للاستيعاب والصبر على الطلب.
لماذا يشكّ أغلب الناس بفائدة الفلسفة وأنها مجرد ترف فكري وتعقيد لفظي؟ ينبغي علينا أن نشير إلى أن عموم الناس "يصرُّون على مقتضيات النفع المباشر الملموس"(3)، وأنهم يطالبون أيَّ نشاط فكري أو عملي بأن يقدم مبرراته وفائدته التي تظل، لدى أغلب الناس، ذات طابع نفعي حسي، أي براغماتي ساذج. هل سيدرّ عليّ تعلّم الفلسفة مزيداً من المال؟ هل سيدفعني إلى معرفةِ كيفية عمل هذه الآلة أو طريقة تشغيلها؟
هكذا يفكر - بعفوية - كل من تتعرض له الفلسفة بموضوعاتها ومناهجها، راغبةً في أن يسلك بها طرقَ البحث النظري والتحليل العقلي.
ورغم هذا فإنني ألاحظ تقصيراً واضحاً من جانب الفلاسفة في تقديم المبررات والجدوى من فلسفتهم، وربما أن استغراقهم داخل الخطاب الفلسفي وأدواته المفهومية أشغلهم عما يقع خارجه.
لا بدّ أن نعترف، لكي نحدد بصورة واقعية جدوى الفلسفة، بأن "قيمتها تكمن في صلتها بحاجات العقل فقط س(4)، وأما الحاجات المادية فهي وظيفة العلوم والمخترعات الأخرى. والذي يطلب من الفلسفة أن تكون وسيلة للربح المادي فعليه أن يتوقف عن قراءة المقال الآن.
لقد طال اعتقاد الناس بأن عصر التأمل العقلي والتفكير الفلسفي قد ولّى، وأن العلوم الحديثة والتطور التقني كفيلانِ بتوفير أسباب الرخاء والعيش الرغيد.. وتناسى هؤلاء أنّ للعقل حاجاته، وأن العلوم والتقنيات تتناول قضايا محدودة ومسائل جزئية، وأن ثمة حاجات يفرضها علينا وجودنا واجتماعنا، بل وقيمنا، إلى دراسة الوجود ككل، وإلى معالجة أمور ليست من صلب الاهتمام العلمي كالأخلاق والقيم والروح والحرية ونحوها.
إن للفلسفة فوائد كثيرة ليس أقلها شأناً مراجعة المفاهيم والمفردات التي نتداولها دون نظر وتفكير، وليس أعظمها منزلة تأمل الوجود وحدسه.
يمكن أن نعرف كثيراً عن فوائد الفلسفة إذا ما تعرضنا - بإيجاز - إلى أهمّ خصائص التفكير الفلسفي. وأول هذه الخصائص أنه تفكير عقلاني، والعقل هو الملكة التي خُصَّ بها الإنسانُ وإغفالها يفضي إلى رفءع عنصر المفارقة مع بقية الكائنات الحية التي تتشابه معه من نواح كثيرة، ليس العقل أحدها. والعقل الذي أقصده هو العقل النظري التجريدي، وليس فقط العقل الأداتي العملي. ويخيل إليّ أن الإعراض عن استخدام ملكة العقل استخداماً سليماً قد يؤدي إلى تعطل هذه الملكة ونضوب هذا النبع الغزير.
وثانيها أنه تفكير شكّي، فلا يسلِّمُ بصحة شيءٍ ما لم يعرضه على ملكة العقل لكي تتحقق من صدقه وعدم تناقضه. ولذا فهو يحذرنا من سرعة التصديق أو قبول ما لم يتم فحصه واختباره والبرهنة عليه. فلا بد "أن نترك مجالاً للشك داخل ما نؤمن به" (5) لكي لا تتصلب عقولنا وتترهل معارفنا ونبتعد عن الواقع الجدلي الدائم السيلان والتغير.
إن حياة الحقائق واستمرارية التطور العقلي والروحي مقترن أشد الاقتران بآلية النقد والمراجعة والمساءلة الدائمة. وهذه هي الخاصية الثالثة وهي أن التفكير الفلسفي تفكير نقدي، ويحاول قدر الجهد أن "يعلو"على ذاته وأن "يتجاوز" معطياته ليعيدَ طرح التساؤلات ويرتدَّ بها إلى نفسه أولاً قبل أن يقلِقَ بها غيرَه، فهو قَلِقٌ مُقءلِق - حسب تعبير طه حسين. فالنقد مثل الوقود الذي يدفع بعجلة التطور إلى الأمام، فإذا غاب النقد وتوارت الروح النقدية عن أي مجتمع أو أي فعالية إنسانية فسيكون مصيرها التحجر والتصلب، ولا يبعد أن يتهشَّم ويتفتت من شدةِ صلابته وتلاحم أجزائه بشكل مبالغ فيه. وقليل من المرونة وشيء من الثغرات يفسح المجال للنقد، أي للحركة والتمدد.
إن الخاصية النقدية للتفكير الفلسفي توحي لنا بأن الكمال داخل أي منظومة إنسانية ليس سوى وهمٍ. وهو وهمٌ يفضي إلى مشكلات كثيرة كفقدان الحاجة إلى التغيير والتطوير، وإلقاء اللوم على عاتق الآخرين وكل ما هو خارج الذات المكتملة الكاملة، وفي هذا نفيٌ ل(جدل الأنا والآخر)، حيث تنسحب كل الاتهامات إلى طرف واحد، فينتهي بالوعي إلى الشلل والعجز عن إدراك المشكلة وما ينتج عنها من قرارات خاطئة وتدبيرات غير واقعية.
وغياب النقد عن التفكير الإنساني، الاجتماعي والسياسي والديني والفكري، يضعف من أهليته ويقلل من فاعليته في إحداث صيغة توافقية مع مقتضيات العصر، بل وينتهي به إلى الوقوع في التكرار والدوران. ومسار التطور خطّي يتجه إلى وجهة واحدة وهي الأمام، حيث المستقبل وحيث مصير الإنسان والمجتمع.
إنني على يقين بأن الضمور الفكري والأدبي والفني الذي تعاني منه بلادنا عائد بشكل رئيسي إلى غياب التفكير النقدي والتأسيس الفلسفي. فالفلسفة كانت ولا تزال هي الطاقة العقلية الخلاقة التي تحفز على مزيد من الإبداع، من خلال ما تطرحه من مفاهيم حول الحرية والنقد والشك والتجاوز والاختلاف والنسبية والفردية... فلا إبداع من دون الاعتراف بالفرد ككائن له استقلاليته وحريته في ممارسة التفكير الحر والنقد الجريء والتعبير عما يراه حقاً. وهذا حقه كإنسانٍ ذي عقل. ولن نحتاج إلى تقديم البراهين على أهمية وقيمة العقل، فهي أبين من أن يشارَ إليها. وأما الاختلاف حول ماهية العقل فهو ليس شراً مادام هذا الاختلاف صفة كونية تصف كل شيء. وليس ثمة ما يمكن الاتفاق عليه مطلقاً.
لو رجعنا إلى تواريخ الأمم المتفوقة والمزدهرة لرأينا أنها وصلت إلى هذه الغاية عن طريق الفلسفة والعلم وما ينتج عنهما من رؤى وتصورات وتصرفات بشكل مباشر أو غير مباشر.
صحيح أن نتائج العلم مباشرة، من خلال المنتج التكنولوجي، ولكن الفلسفة ذات نتائج أكثر قوة وفاعلية، ولكنها غير ملحوظة إلا للقلة من الناس ممن نتفق على تسميتهم بالمثقفين والعلماء والمفكرين. بل إنني أعتقد أن الفلسفة، باعتبارها أم العلوم كما تسمى قديماً، هي الممهِّد الحقيقي لنشوء وتطور العلوم والفنون والمعارف الأخرى. والنتائج الباهرة للعلوم المادية في العصر الحديث، لم تكن مجرد محصلة للكشوفات الجغرافية والمخترعات العلمية بقدر ما هي نتيجة لسيادة التفكير العقلاني الفلسفي في جميع أنماط التفكير وأشكال الوعي.. التفكير الذي يحرر العقول من سلطة المفاهيم الجامدة والتي استنفدت أغراضها، ولم تعد نافعةً في استقراء الواقع وكشف ممكناته. وتحرير العقل يسبق، بالتأكيد، استثمار خيرات الطبيعة واستغلال مواردها، وهذا لا يتم إلا بالفلسفة