ماهي الحوقلة

ماهي الحوقلة



0      0

5
صورة المستخدم

Amar803

مشترك منذ : 02-01-2012
المستوى : مساهم
مجموع الإجابات : 190
مجموع النقاط : 168 نقطة
النقاط الشهرية : 0 نقطة

Amar803
منذ 12 سنة

الحوقلة مفهومها ودلالتها العقدية
إعداد:
أ د. عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
الأستاذ في كلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
المقدمة
الحمد لله ربّ العالمين، به سبحانه نستهدي، وإياه نستكفي، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم، وهو المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أما بعد؛ فإنَّ للأذكار الشرعية مكانةً عالية في الدين، ومنزلة رفيعة في نفوس المؤمنين، وهي من أجل القربات، وأفضل الطاعات، ولها من الثمار اليانعة والفضائل المتنوعة والخيرات المتوالية في الدنيا والآخرة ما لا يحصيه ويحيط به إلاّ الله عز وجل.
والكتاب والسنة مليئان بالشواهد العديدة والأدلة المتنوعة على فضل الذكر ورفيع قدره وعلو مكانته وكثرة عوائده وفوائده على أهله الملازمين له والمحافظين عليه.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً}(1).
وقال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}(2).
وقد أخرج الترمذي ،وابن ماجه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا أنبّئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والوَرِق، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال:ذكر الله"(3).
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سبق المفرِّدون، قالوا: وما المفرِّدون يا رسول الله ؟ قال: الذّاكرون الله كثيراً والذّاكرات"(4).
وروى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثلُ الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكر ربَّه مثلُ الحيّ والميّت"(5).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
ثم إنَّ هذه الأذكار الشرعية إضافة إلى دلالة النصوص على عظم فضلها وكثرة خيراتها وعوائدها، فإنَّها تمتاز بكمال معناها وجمال ألفاظها وتنوع دلالاتها وقوة تأثيرها وشمولها لحقائق الإيمان وأبواب الخير، فهي من جوامع كلم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ومن محاسن هذا الدّين العظيم، مع الأمن الكامل فيها من الشطط والانحراف في المعاني والدلالات أو التكلف والتقعر في الألفاظ والعبارات.
بل جاءت بألفاظ جزلة وكلمات مختصرة ودلالات عميقة،فهي يسيرٌ لفظُها ونطقها، عظيم معناها ومقصودها، كثير أجرها وثوابها، واسعة خيراتها ومنافعها،متعددة فوائدها وثمراتها.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك وأرشد إليه بقوله عليه الصلاة والسلام في وصف أحد هذه الأذكار: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"(6).
وهذا شأن جميع الأذكار الشرعية خفيفةٌ على اللسان، ثقيلةٌ في الميزان، حبيبةٌ إلى الرحمن،مع التفاضل بينها والتمايز حسبما دلت عليه نصوص الشريعة.
ومع ما في الأذكار الشرعية من الكمال والجمال في معانيها ومبانيها إلاّ أنَّك ترى في كثير من عوام المسلمين من يعدل عنها وينصرف إلى أذكار مخترعة وأدعية مبتدعة ليست في الكتاب ولا في السنة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: ((ومن أشدّ الناس عيباً من يتخذ حزباً ليس بمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان حزباً لبعض المشايخ، ويدع الأحزاب النبوية التي كان يقولها سيّد بني آدم وحجة الله على عباده ))(7).
يضاف إلى ذلك ما لدى كثير من المسلمين من الجهل وعدم العلم بمعاني الأذكار الشرعية العظيمة ودلالاتها النافعة القويمة، مما يستوجب مضاعفة العناية بالأذكار النبوية علماً وتعليما، وشرحاً وبيانا، وتوضيحاً وتذكيرا، لتعلم مراميها، وتفهم مقاصدها، وتتضح دلالتها، لتؤدّي بذلك ثمراتها النافعة، وفوائدها الحميدة وخيرها المستمر.
قال ابن القيم – رحمه الله -: (( وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ القلب اللسان، وكان من الأذكار النبوية، وشهد الذاكر معانيه ومقاصده ))(8).
هذا وإنَّ من الأذكار النبوية العظيمة التي كان يحافظ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكثر من قولها، ويحثّ على الإكثار منها والعناية بها "الحوقلة"، وهي قول (( لا حول ولا قوة إلاّ بالله ))، فإنَّ هذه الكلمة العظيمة لها من الفضائل والفوائد والثمار ما لا يحصيه إلاّ الله، وفيها من المعاني العميقة والدلالات المفيدة ما يثبت الإيمان، ويقوي اليقين، ويزيد صلة العبد بربّ العالمين.
ولما كان الأمر بهذه المثابة وعلى هذا القدر من الأهمية رأيت إفرادَ هذه الكلمة بهذا البحث الذي جعلته بعنوان (( الحوقلة: مفهومها، وفضائلها، ودلالاتها العقدية )).
ورغم أهمية هذا الموضوع وشدّة الحاجة إليه إلاّ أني لم أر من أفرده بالتأليف سوى رسالتين:
إحداهما: لجلال الدين السيوطي، سمّاها (( شرح الحوقلة والحيعلة )) وهي من أول تأليفه سنة (( 886 هـ)) كما في كشف الظنون للحاج خليفة(9)، ولم أقف عليها.
الثانية: لجمال الدين يوسف بن عبد الهادي، أسماها (( فضل لا حول ولا قوة إلاّ بالله ))، وقد خصها بذكر ما يتعلق بفضل هذه الكلمة.
وقد رأيت أن يكون طرقي لهذا الموضوع من خلال المباحث التالية:
المبحث الأول: مفهوم الحوقلة.
المبحث الثاني: فضائلها.
المبحث الثالث: دلالاتها العقدية.
المبحث الرابع: في التنبيه على بعض المفاهيم الخاطئة فيها.
ومن الله تبارك وتعالى أستمد العون واستمنح التوفيق، فلا حول ولا قوة إلاّ به، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المبحث الأول: مفهوم الحوقلة:
أولاً: المراد بالحوقلة:
الحوقلة كلمةٌ منحوتة من " لا حول ولا قوة إلاّ بالله "، وهذا الباب سماعي، وهو من الفعل الرباعي المجرد كما هو مقررٌ في كتب الصرف.
والنحت (( هو أن ينحت من كلمتين أو أكثر كلمة واحدة تدل على معنى الكلام الكثير، وذلك على النحو التالي:
أ - النحت من كلمتين مركبتين تركيباً إضافياً مثلما نحتوا من عبد قيس: عبقسي.
ب – النحت من جملة مثل: بسمل أي: قال بسم الله، حوقل، قال: لا حول ولا قوة إلاّ بالله ))(10).
ويقال لها أيضا (( الحولقة ))، قال النووي – رحمه الله -: (( قال أهل اللغة: ويعبر عن هذه الكلمة بالحوقلة والحولقة … ))(11).
وقال في موضع آخر: ((ويقال في التعبير عن قولهم لا حول ولا قوة إلاّ بالله الحوقلة، هكذا قاله الأزهري والأكثرون، وقال الجوهري الحولقة، فعلى الأول وهو المشهور الحاء والواو من الحول، والقاف من القوة، واللام من اسم الله تعالى، وعلى الثاني الحاء واللام من الحول، والقاف من القوة، والأول أولى لئلا يفصل بين الحروف ))(12).
ويلاحظ على هذا أمران:
1 – أنَّ الذي ذكره الأزهري في تهذيب اللغة ونقله عن بعض أهل اللغة كالفراء وابن السكيت (( الحولقة )) وليس (( الحوقلة ))(13).
2 – تعليل أولوية لفظ (( حوقل )) على لفظ (( حولق )) بحجة عدم الفصل بين الحروف غير واضح، لأنَّ (( حولق )) ليس فيها فصل بين الحروف.
ثانياً: معنى (( لا حول ولا قوة إلاّ بالله )):
الحول: هو التحرك، يقال: حال الرجل في متن فرسه يحول حولاً وحوُولاً إذا وثب عليه، وحال الشخص إذا تحرك، وكذلك كلُّ متحول عن حاله(14).
والقوة: هي الشدّة وخلاف الضعف، يقال: قوي الرجل، كرضي، فهو قويٌّ وتَقوَّى واقتوى أي: صار ذا شدّة، وقوّاه الله أي: أعطاه القوة وهي الشدّة وعدم الضعف(15).
فمعنى لا حول ولا قوة إلاّ بالله أي: لا تحول من حال إلى حال، ولا حصول قوة للعبد على القيام بأيِّ أمر من الأمور، إلاّ بالله، أي: إلاّ بعونه وتوفيقه وتسديده، وقد ورد في بيان معنى هذه الكلمة وتوضيح المراد بها عن السلف وأهل العلم نقول عديدة من ذلك:
1 – قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في (( لا حول ولا قوة إلاّ بالله)) أي: (( لا حول بنا على العمل بالطاعة إلاّ بالله، ولا قوة لنا على ترك المعصية إلاّ بالله )) رواه ابن أبي حاتم(16).
2 – وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال في معناها أي (( لا حول عن معصية الله إلاّ بعصمته، ولا قوة على طاعته إلاّ بمعونته ))(17).
3 – وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في معناها أي: (( أنا لا نملك مع الله شيئاً، ولا نملك من دونه، ولا نملك إلاّ ما ملكنا مما هو أملك به منا ))(18).
4 – وسئل زهير بن محمد عن تفسير (( لا حول ولا قوة إلاّ بالله )) فقال: ((لا تأخذ ما تحبّ إلاّ بالله، ولا تمتنع مما تكره إلاّ بعون الله )) رواه ابن أبي حاتم(19).
5 – وسئل أبو الهيثم الرازي ( ت276هـ ) وهو إمام في اللغة عن تفسير ((لا حول ولا قوة إلاّ بالله )) فقال: (( الحول: الحركة، يقال حال الشخص إذا تحرك، فكأنّ القائل إذا قال: لا حول ولا قوة ، يقول: لا حركة ولا استطاعة إلاّ بمشيئة الله ))(20).
6 – وقيل معناها: (( لا حول في دفع شر، ولا قوة في تحصيل خير إلاّ بالله))(21).
وجميع هذه الأقوال متقاربة في الدلالة على المعنى المراد بهذه الكلمة العظيمة؛ ولهذا قال النووي – رحمه الله – بعد أن أورد بعض هذه الأقوال: (( وكلُّه متقاربٌ))(22).
ثالثاً: إعراب (( لا حول ولا قوة إلاّ بالله )):
(( لا )): نافية للجنس.
(( حول )): اسم لا، مبني على الفتح في محل نصب، وخبرها محذوف، وتقديره كائن أو موجود.
(( ولا )) الواو عاطفة، ولا نافية للجنس أيضا.
(( قوة )) اسم لا، وخبرها محذوف، وتقديره كائنة أو موجودة.
(( إلاّ )) أداة استثناء.
(( بالله )) جار ومجرور، متعلق بالخبر المحذوف.
وقد ذكر أهل اللغة أنَّه يجوز في إعراب (( لا حول ولا قوة إلاّ بالله )) خمسة أوجه(23)، بيانها كما يلي:
1 – ((لا حولَ ولا قوةَ إلاّ بالله )) بفتحهما بلا تنوين.
2 – (( لا حولَ ولا قوةً إلاّ بالله )) بفتح الأولى ونصب الثاني منوناً.
3 – (( لا حولٌ ولا قوةٌ إلاّ بالله )) برفعهما منونين.
4 – (( لا حولَ ولا قوةٌ إلاّ بالله )) بفتح الأول ورفع الثاني منوناً.
5 – (( لا حولٌ ولا قوةَ إلاّ بالله )) برفع الأول منوناً وفتح الثاني.
وإلى هذه الوجوه الخمسة يشير ابن مالك – رحمه الله – في ألفيته حيث يقول:
عملَ إنّ اجعل للا في نكرة
فانصب بها مضافاً أو مضارعه
وركّب المفـرد فاتحاً كـلا
مرفوعاً أو منصوبا أو مركبا
ثم إنَّ في هذه الكلمة صيغةً من صيغ الحصر وهي (( إلاّ ))، بل عدّها السكاكي من أهم صيغ الحصر (25).
قال الأخضري في أرجوزته مشيراً إلى صيغ الحصر:
وأدوات القصر إلاّ إنّما
المبحث الثاني: فضائل (( لا حول ولا قوة إلاّ بالله )):
لقد وردت نصوص كثيرة في السنة في بيان فضل هذه الكلمة وعظم شأنها، وقد تنوعت هذه النصوص في الدلالة على تشريف هذه الكلمة وتعظيمها ،مما يدل بجلاء على عظم فضل هذه الكلمة ورفعة مكانتها، وأنها كلمة عظيمة ينبغي علىكلِّ مسلم أن يعنى بها ويهتمّ بها غاية الاهتمام، وأن يكثر من قولها لعظم فضلها عند الله، وكثرة ثوابها عنده ،ولما يترتب عليها من خيرات متنوعة وفضائل متعددة في الدنيا والآخرة، ومما يدل على فضل هذه الكلمة العظيمة ما يلي:
1 – أنَّها وردت في عدة أحاديث مضمومة إلى الكلمات الأربع الموصفة بأنها أحبّ الكلام إلى الله.
فقد ثبت في المسند وسنن الترمذي والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ما على الأرض رجلٌ يقول لا إله إلاّ الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، إلاّ كُفِّرت عنه ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر ))(27).
وثبت في سنن أبي داود والنسائي والدار قطني وغيرهم عن ابن أبي أوفى رضي الله عنهما قال:جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني لا أستطيع أن أتعلم القرآن فعلّمني شيئاً يجزيني قال:" تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله "، فقال الأعرابي هكذا وقبض يديه فقال: هذا لله فما لي، قال:"تقول: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني واهدني" فأخذها الأعرابي وقبض كفيه،فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أمَّا هذا فقد ملأ يديه بالخير "(28).
2 – ورودها معدودةً في الباقيات الصالحات التي قال الله عنها: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (29).
فقد روي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هي يا رسول الله ؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والحمد ولا حول ولا قوة إلاّ بالله"، رواه أحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (30)، ولكن في إسناده أبو السمح دراج بن سمعان صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعف(31)، وهذا منها.
لكن جاء عدُّ لا حول ولا قوة إلاّ بالله في جملة " الباقيات الصالحات" عن غير واحد من الصحابة والتابعين، فقد روى الإمام أحمد في مسنده أنَّ أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه سئل عن " الباقيات الصالحات " ما هي ؟ فقال: (( هي لا إله إلاّ الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله))(32).
وروى ابن جرير عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّه سئل عن " الباقيات الصالحات " فقال: لا إله إلاّ الله، والله أكبر، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله(33).
وعن سعيد بن المسيب قال: (( الباقيات الصالحات:سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ))(34).
وروى ابن جرير الطبري عن عمارة بن صياد قال: (( سألني سعيد بن المسيب عن " الباقيات الصالحات "، فقلت: الصلاة والصيام، قال: لم تصب، فقلت: الزكاة والحج، فقال: لم تصب، ولكنَّهنَّ الكلمات الخمس: لا إله إلاّ الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ))(35).
وأثر ابن المسيب هذا يوهم أنَّ " الباقيات الصالحات " محصورةٌ في هؤلاء الكلمات الخمس، والذي عليه المحققون من أهل العلم أنَّ " الباقيات الصالحات" هنّ جميع أعمال الخير، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَات} قال:(( هي ذكر الله، قول لا إله إلاّ الله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، وأستغفر الله، وصلى الله على رسول الله، والصيام والصلاة والحج والصدقة والعتق والجهاد والصلة وجميع أعمال الحسنات وهن الباقيات الصالحات، التي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السموات والأرض ))(36).
3 – إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنَّها كنزٌ من كنوز الجنة.
فقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكنا إذا علونا كبّرنا، وفي رواية: فجعلنا لا نصعد شرفاً ولا نعلو شرفاً ولا نهبط في واد إلاّ رفعنا أصواتنا بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنَّكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، ولكن تدعون سميعاً بصيراً"، ثم أتى عليّ وأنا أقول في نفسي: لا حول ولا قوة إلاّ بالله، فقال: "يا عبد الله بن قيس، قل: لا حول ولا قوة إلاّ بالله فإنَّها كنزٌ من كنوز الجنة"، أو قال:" ألا أدلك على كلمة هي كنزٌ من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلاّ بالله "(37).
قال بعض أهل العلم في التعليق على هذا الحديث: (( كان عليه (الصلاة و) السلام معلِّماً لأمته فلا يراهم على حالة من الخير إلاّ أحبّ لهم الزيادة ،فأحب للذين رفعوا أصواتهم بكلمة الإخلاص والتكبير أن يضيفوا إليها التبري من الحول والقوة فيجمعوا بين التوحيد والإيمان بالقدر))(38)، وقد جاء في الحديث:" إذا قال العبد لا حول ولا قوة إلاّ بالله، قال الله: أسلم واستسلم" رواه الحاكم بإسناد قال عنه الحافظ ابن حجر: (( قوي ))(39).
وفي رواية:" ألا أدلك على كلمة من تحت العرش من كنز الجنة ؟ تقول: لا حول ولا قوة إلاّ بالله، فيقول الله عز وجل: أسلم عبدي واستسلم" رواه الحاكم وقال: (( صحيح ولا يحفظ له علة )) ووافقه الذهبي.
قال النووي – رحمه الله -: (( ومعنى الكنز هنا أنَّه ثواب مدخرٌ في الجنة، وهو ثوابٌ نفيسٌ كما أنَّ الكنز أنفس أموالكم ))(40).
وقال ابن حجر – رحمه الله: (( كنزٌ من كنوز الجنة من حيث أنَّه يدخر لصاحبها من الثواب ما يقع له في الجنة موقع الكنز في الدنيا؛ لأنَّ من شأن الكانز أن يعد كنزه لخلاصه مما ينوبه والتمتع به فيما يلائمه ))(41).
4 – ورود الأمر بالإكثار منها والإخبار أنَّها من غراس الجنة.
روى الإمام أحمد وابن حبان عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مرَّ على إبراهيم، على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقال: (( يا محمد مُرْ أمَّتَك أن يكثروا من غراس الجنة، قال: وما غراس الجنة ؟ قال: لا حول ولا قوة إلاّ بالله ))(42).
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أكثروا من قول لا حول ولا قوة إلاّ بالله فإنَّها كنزٌ من كنوز الجنة "(43).
5 – إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنَّها بابٌ من أبواب الجنة.
روى الإمام أحمد والحاكم عن قيس بن سعد بن عبادة أنَّ أباه دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخدمه قال: فمرّ بي النبي صلى الله عليه وسلم وقد صليت فضربني برجله وقال:" ألا أدلك على باب من أبواب الجنة ؟ قلت: بلى، قال: لا حول ولا قوة إلاّ بالله"(44).
6 – تصديق الله لمن قالها.
روى الترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم عن أبي إسحاق عن الأغر أبي مسلم، أنَّه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنَّهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:" إذا قال العبد: لا إله إلاّ الله والله أكبر، قال: يقول الله تبارك وتعالى: صدق عبدي لا إله إلاّ أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلاّ الله وحده، قال: صدق عبدي لا إله إلاّ أنا وحدي، وإذا قال: لا إله إلاّ الله لا شريك له، قال: صدق عبدي لا إله إلاّ أنا لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلاّ الله له الملك وله الحمد، قال: صدق عبدي، لا إله إلاّ أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلاّ الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، قال: صدق عبدي لا إله إلاّ أنا ولا حول ولا قوة إلاّ بي".
ثم قال الأغر شيئاً لم أفهمه، قلتُ لأبي جعفر: ما قال ؟ قال: (( من رُزِقهنّ عند موته لم تمسّه النار )).
وقال الترمذي: حديث حسن، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الشيخ الألباني ـ رحمه الله: وهو حديث صحيح(45).
قال ابن القيم – رحمه الله -: (( الذكر سبب لتصديق الرب عز وجل عبدَه، فإنَّ الذاكر يخبر عن الله تعالى بأوصاف كماله ونعوت جلاله، فإذا أخبر بها العبد صدَّقه ربُّه، ومن صدّقه اللهُ تعالى لم يحشر مع الكاذبين، ورجي له أن يحشر مع الصادقين ))(46).
فهذه بعض الفضائل الدالة على عظم مكانة هذه الكلمة، ورفعة شأنها، وكثرة عوائدها وفوائدها، وعظم ما يترتب عليها من أجور عظيمة وخيرات جليلة وفوائد متنوعة في الدنيا والآخرة.
وقد نظم ابن العراقي – رحمه الله – جملةً من الفضائل الواردة لهذه الكلمة في أبيات لطيفة فقال:
يا صاح أكثر قول لا حول ولا
وإنَّـها كنز مـن الجنـة يـا
لـه يقـول ربنا أسلـم لـي
وأنشد أيضاً لنفسه:
تـبرّأ مـن الحـول والقـوة
وسلِّـم أمـورك لله كــي
ولا ترج إن مسّ خطب سوى
وواظب على الخير واحرص على
وكن سالم الصدر للمسلمـين
المبحث الثالث: دلائل (( لا حول ولا قوة إلاّ بالله )) العقدية:
إنَّ هذه الكلمة العظيمة التي سبق ذكر بعض فضائلها وبيان شيء من ميزاتها ومحاسنها ذاتُ دلالات عميقة ومعان جليلة تشهد بحسنها، وتدل على كماله وعظم شأنها وكثرة عوائدها وفوائدها.
وإنَّ أحسن ما يستعان به على فهم دلالاتها ومعرفة معانيها ومقاصدها قولُ النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه:" ألا أدلك على كلمة من تحت العرش من كنز الجنة ؟ تقول:لا حول ولا قوة إلاّ بالله، فيقول الله عز وجل: أسلم عبدي واستسلم"(48).
وقد روى ابن عبد الهادي في كتابه " فضل لا حول ولا قوة إلاّ بالله " بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((من قال بسم الله فقد ذكر اللهَ، ومن قال الحمد لله فقد شكر الله، ومن قال: الله أكبر فقد عظّم اللهَ، ومن قال: لا إله إلاّ الله فقد وحّد الله، ومن قال:لا حول ولا قوة إلاّ بالله فقد أسلم واستسلم وكان له بها كنزٌ من كنوز الجنة ))(49).
وروي عن ابن عمر أنَّه قال: (( سبحان الله هي صلاة الخلائق، والحمد لله كلمة الشكر، ولا إله إلاّ الله كلمة الإخلاص، والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، وإذا قال: لا حول ولا قوة إلاّ بالله، قال الله تعالى: أسلم واستسلم))(50).
فهي كلمة إسلام واستسلام، وتفويض وتبرّؤ من الحول والقوّة إلاّ بالله، وأنَّ العبد لا يملك من أمره شيئاً، وليس له حيلةٌ في دفع شر، ولا قوةٌ في جلب خير إلاّ بإرادة الله تعالى ، فلا تحوّل للعبد من معصية إلى طاعة، ولا من مرض إلى صحة، ولا من وهن إلى قوة، ولا من نقصان إلى كمال وزيادة إلاّ بالله، ولا قوة له على القيام بشأن من شؤونه، أو تحقيق هدفٍ من أهدافه أو غاية من غاياته إلاّ بالله العظيم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فأزمّةُ الأمور بيده سبحانه، وأمور الخلائق معقودةٌ بقضائه وقدره، يصرفها كيف يشاء ويقضي فيها بما يريد، ولا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، فما شاء كان كما شاء في الوقت الذي يشاء، على الوجه الذي يشاء من غير زيادة ولا نقصان، ولا تقدّم ولا تأخر، له الخلق والأمر، وله الملك والحمد، وله الدنيا والآخرة، وله النعمة والفضل ،وله الثناء الحسن، شملت قدرته كلَّ شيء، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (51)،{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} (52)، ومن كان هذا شأنه فإنَّ الواجب الإسلامُ لألوهيته والاستسلام لعظمته، وتفويض الأمور كلِّها إليه، والتبرّؤُ من الحول والقوة إلاّ به، ولهذا تعبّد الله عباده بذكره بهذه الكلمة العظيمة التي هي باب عظيم من أبواب الجنة وكنز من كنوزها.
فهي كلمة عظيمةٌ تعني الإخلاص لله وحده بالاستعانة، كما أنَّ كلمة التوحيد لا إله إلاّ الله تعني الإخلاص لله بالعبادة، فلا تتحقق لا إله إلاّ الله إلاّ بإخلاص العبادة كلِّها لله، ولا تتحقق لا حول ولا قوة إلاّ بالله إلاّ بإخلاص الاستعانة كلِّها لله، وقد جمع الله بين هذين الأمرين في سورة الفاتحة أفضل سورة في القرآن، وذلك في قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالأوّل تبرّؤٌ من الشرك، والثاني تبرّؤٌ من الحول والقوّة، وتفويضٌ إلى الله عز وجل، والعبادة متعلّقة بألوهية الله سبحانه، والاستعانة متعلّقة بربوبيّته، العبادة غاية، والاستعانة وسيلة، فلا سبيل إلى تحقيق تلك الغاية العظيمة إلاّ بهذه الوسيلة: الاستعانة بالله الذي لا حول ولا قوة إلاّ به.
ويمكن أن نلخص الدلالات العقدية لهذه الكلمة العظيمة في النقاط التالية:
1 – أنَّها كلمة استعانة بالله العظيم، فحريٌّ بقائلها والمحافظ عليها أن يظفر بعون الله له وتوفيقه وتسديده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (( وقول " لا حول ولا قوة إلاّ بالله " يوجب الإعانةَ؛ ولهذا سنّها النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال المؤذّن: حيّ على الصلاة، فيقول المجيب: لا حول ولا قوة إلاّ بالله، فإذا قال: حي على الفلاح، قال المجيب: لا حول ولا قوة إلاّ بالله.
وقال المؤمن لصاحبه:{وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ}(53)ولهذا يؤمر بهذا من يخاف العين على شيء، فقوله:ما شاء الله، تقديره: ما شاء الله كان، فلا يأمن؛ بل يؤمن بالقدر ويقول: لا قوّة إلاّ بالله، وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه المتفق عليه ،أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"هي كنز من كنوز الجنة" والكنز مال مجتمع لا يحتاج إلى جمع؛ وذلك أنَّها تتضمن التوكل والافتقار إلى الله تعالى.
ومعلوم أنَّه لا يكون شيء إلاّ بمشيئة الله وقدرته، وأنَّ الخلق ليس منهم شيء إلاّ ما أحدثه الله فيهم، فإذا انقطع طلب القلب للمعونة منهم وطلبها من الله فقد طلبها من خالقها الذي لا يأتي بها إلاّ هو، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}(54) وقال تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} (55) وقال تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (56) وقال تعالى:{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} (57).
وقال صاحب يس:{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (58)ولهذا يأمر الله بالتوكل عليه وحده في غير موضع، وفي الأثر: من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده))(59).
ولهذا ورد في السنة مشروعية قول هذه الكلمة عند خروج المسلم من منزله لقضاء أموره الدينية أو الدنيوية استعانةً بالله واعتماداً عليه، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قال – يعني إذا خرج من بيته – بسم الله، توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله تعالى، يقال له: كفيت، ووقيت، وهديت، وتنحى عنه الشيطان، فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي " رواه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح.(60)
ولهذا أيضاً جعل بعض أهل العلم هذه الكلمة في مستهل ومفتتح مؤلفاتهم طلباً للإعانة من الله عز وجل كما في مقدمة صريح السنة للطبري، والأربعين في دلائل التوحيد للهروي، والصفات للدار قطني وغيرها.
2 - تضمنها الإقرار بربوبيّة الله وأنَّه وحده الخالق لهذا العالم، المدبّر لشؤونه، المتصرف فيه بحكمته ومشيئته، لا يقع شيءٌ في هذا العالم من حركة أو سكون، أو خفض أو رفع، أو عز أو ذل، أو عطاء أو منع إلاّ بإذنه، يفعل ما يشاء ولا يُمانع ولا يُغالب، بل قد قهر كلَّ شيء، ودان له كلُّ شيء، كما قال تعالى:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (61)، وقال تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} (62)، وقال تعالى:{يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} (63)، فالقائل لتلك الكلمة مقرٌّ بهذا،مذعن به، معترف أنَّ أموره كلَّها بيد ربّه ومليكه وخالقه لا قدرة له على شيء ولا حول ولا قوة إلاّ بإذن ربّه ومولاه، وبتوفيق سيّده ومليكه، ولهذا إليه يلجأ، وبه يستعين، وعليه يعتمد في كلِّ أحواله وفي جميع شؤونه.
3 – تضمنها الإقرار بأسماء الله وصفاته، إذ القائل لهذه الكلمة ـ ولا بد ـ مقرٌّ بأنَّ المدعو المقصود الملتجأ إليه بهذه الكلمة غنيٌّ بذاته، وكلُّ ما سواه فقيرٌ إليه، قائم بذاته وكلُّ ما سواه لا يقوم إلاّ به، قديرٌ لذاته وكلُّ ما سواه عاجز لا قدرة له إلاّ بما أقدره، متصف بجميع صفات الكمال ونعوت العظمة والجلال، وكلُّ ما سواه ملازمه النقص، وليس الكمال المطلق إلاّ له سبحانه وتعالى، فلعظمة أسمائه وكمال نعوته وصفاته استحق أن يقصد وحده، وأن لا يلجأ إلاّ إليه.
4 – وفي هذا دلالةٌ وإشارة إلى التلازم بين التوحيد العلمي بقسميه: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، والتوحيد العملي الذي هو توحيد الألوهية.
فإنَّ العبد إذا أقرّ بربوبية الله وكماله في أسمائه وصفاته فإنَّ ذلك يستلزم أن لا يلجأ إلاّ إليه، ولا يقصد أحداً سواه، وإن لم يفعل ذلك فإنَّه لا يكون موحداً بمجرد إقراره بربوبيّة الله وإيمانه بأسماء الله وصفاته، فلو أقرّ بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كلِّ ما ينزه عنه، وأقرّ بأنه وحده خالق كلِّ شيء لم يكن من أهل الإيمان والتوحيد ما لم يشهد أنَّه لا إله إلاّ الله، ويعمل بمقتضى ذلك فلا يعبد إلاّ إيّاه، ولا يتوكل إلاّ عليه، ولا يعمل إلاّ لأجله.
5 – تضمنها الإقرار بألوهية الله، وأنَّه وحده المعبود بحق ولا معبود بحق سواه، وذلك في قوله (( إلاّ بالله )).
والله معناه كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (( ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين ))(64)، وقد جمع رضي الله عنه في هذا التفسير بين ذكر الألوهية وهي الوصف المتعلق بالله من هذا الاسم فهو سبحانه المألوه المعبود المرجو المطاع الذي لا يستحق العبادة أحدٌ سواه، وبين وصف العبد وهو العبودية؛ إذ إنَّ عباد الله هم الذين يعبدونه ويألهونه ويقومون بطاعته وحده لا شريك له.
ثم إنَّ هذا الاسم مستلزمٌ لجميع أسماء الله الحسنى دالٌ عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين له، ولهذا كان من خصائص هذا الاسم أنَّ الله جلّ وعلا يضيف سائر الأسماء إليه كقوله:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (65)ويقال: العزيز الحكيم الرحيم من أسماء الله، ولا يقال الله من أسماء الرحمن، فلهذا الاسم شأنه ومكانته وخصائصه.
قال ابن منده – رحمه الله -: (( فاسم الله معرفة ذاته، منع الله عز وجل خلْقَه أن يتسمّى به أحدٌ من خلقه، أو يدعى باسمه إله من دونه، جعله أوّلَ الإيمان، وعمود الإسلام، وكلمة الحق والإخلاص، ومخالفة الأضداد والإشراك فيه، يحتجز القائل من القتل، وبه تفتتح الفرائض وتنعقد الأيمان، ويستعاذ من الشيطان، وباسمه يفتتح ويختم الأشياء، تبارك اسمه ولا إله غيره ))(66).
6 – تضمنها الإيمان بقضاء الله وقدره، ولهذا ترجم لها الإمام البخاري في كتاب القدر من صحيحه بقوله: (( باب: لا حول ولا قوة إلاّ بالله ))، ودلالة هذه الكلمة على الإيمان بالقدر ظاهرة؛ إذ فيه تسليم العبد واستسلامه وتبرّؤه من الحول والقوة، وأنَّ الأمورَ إنَّما تقع بقضاء الله وقدره.
قال ابن بطال: (( كان عليه (الصلاة و)السلام معلِّماً لأمته فلا يراهم على حالة من الخير إلاّ أحبّ لهم الزيادة، فأحبّ للذين رفعوا أصواتهم بكلمة الإخلاص والتكبير أن يضيفوا إليها التبرّي من الحول والقوّة فيجمعوا بين التوحيد والإيمان بالقدر ))(67).
7 – أنّ فيها معنى الدعاء الذي هو روح العبادة ولبُّها، وقد ذكر الإمام البخاري – رحمه الله – في كتاب الدعوات من صحيحه باباً بعنوان: (( باب قول لا حول ولا قوّة إلاّ بالله))، فهي من جملة الأدعية النبوية النافعة المشتملة على معاني الخير وجوامع الكلم.
8 – أنَّ فيها الإيمان بمشيئة الله النافذة، وأنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنّ مشيئة العبد تحت مشيئة الله، كما قال الله تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}(68) فلا قدرة للعبد على القيام بما يشاء من الخير وما يريده من المصالح إلاّ أن يشاء الله، قال الله تعالى:{وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} (69).
9 – أنَّ فيها الإقرارَ من العبد بفقره واحتياجه إلى ربّه في جميع أحواله وكافة شؤونه، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (70).
وقد بيّن الله سبحانه في هذه الآية الكريمة أنّ فقر العباد إليه أمر ذاتي لهم لا ينفك عنهم، وهو ثابتٌ لهم لذواتهم وحقائقهم من كلِّ وجه، لا غنى لهم عن ربّهم وسيّدهم طرفة عين ولا أقلّ من ذلك.
قال ابن القيم – رحمه الله -: (( اعلم أنَّ كلَّ حي – سوى الله – فهو فقيرٌ إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضرّه، والمنفعة للحيّ من جنس النعيم واللذّة، والمضرّة من جنس الألم والعذاب، فلا بد من أمرين: أحدهما هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع به ويتلذذ به، والثاني هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع لحصول المكروه والدافع له بعد وقوعه.
فهاهنا أربعة أشياء: أمر محبوب مطلوب الوجود، والثاني أمر مكروه مطلوب العدم، والثالث الوسيلة إلى حصول المحبوب، والرابع الوسيلة إلى دفع المكروه، فهذه الأمور الأربعة ضرورية للعبد، بل ولكلِّ حي سوى الله، لا يقوم صلاحه إلاّ بها.
إذا عرف هذا فالله سبحانه هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له، وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه، فلا معبود سواه ولا معين على المطلوب غيره، وما سواه هو المكروه المطلوب بعده، وهو المعين على دفعه، فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قول العبد{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإنَّ هذه العبادة تتضمن المقصود المطلوب على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على حصول المطلوب ودفع المكروه، فالأوّل من مقتضى ألوهيّته، والثاني من مقتضى ربوبيّته ))(71).