المقدمة:
شهد القطاع المالي على مستوى العالم العديد من التطورات خلال العقد الأخير من القرن العشرين تمثلت في التقدم التكنولوجي الهائل في الصناعة المصرفية، واستحداث أدوات مالية جديدة، وانفتاح الأسواق المالية على بعضها البعض في الدول المختلفة بصورة غير مسبقة، وعلى الرغم من هذه التطورات الإيجابية، فإن هناك بعض الأزمات التي شهدها القطاع المالي سواء في الدول النامية أوالمتقدمة، أدت إلى التأثير السلبي على اقتصاديات تلك الدول، هذا وقد نلاحظ أن معظم الدول التي شهدت أزمات مالية واقتصادية كانت مشاكل البنوك قاسماً مشتركاً فيها، وأرجع الخبراء ذلك إلى تزايد المخاطر المصرفية وعلى رأسها المخاطر الناتجة عن الائتمان، ومن هنا جاء اقتراح "لجنة بازل للرقابة على البنوك". والذي تم الإعلان عنه في السادس عشر من يناير 2001، بتعديل معايير كفاية رأس المال السارية منذ عام 1988 بهدف تدعيم الملاءة المالية للجهاز المصرفي على مستوى العالم، وإيجاد المناخ المناسب للائتمان لضمان تفعيل الرقابة على مخاطره.
وقد اهتم الأدب الاقتصادي بدراسة العلاقة بين القطاع المالي والمصرفي والنمو الاقتصادي. حيث يعتبر وجود قطاع مالي قادر على حشد وتخصيص الموارد المالية بكفاءة لخدمة الأغراض المنتجة والتنموية وتقليل المخاطر الائتمانية من المتطلبات الرئيسية لتحقيق وتقوية قطاعاتها المالية، في الوقت الذي تسعى فيه إلى تقليل احتمالات تعرضها للهزات المالية والصدمات الخارجية. وقد خطى كثير من هذه الدول خطوات مهمة في هذا السبيل في السنوات الأخيرة. لقد اختلفت الإصلاحات من حيث مدى عمقها ومجال تركيزها بين الدول المختلفة، ولكن الأهداف في كل الحالات كانت ذاتها: زيادة الاعتماد على قوى السوق والحوافز الخاصة في مجال الوساطة المالية ودارة المخاطر والتأكيد على سلامة القطاع المالي وتقوية أطره التشريعية والتنظيمية، وتحسين مقدرة المؤسسات المالية على تعبئة المدخرات المحلية وزيادة المنافسة بين هذه المؤسسات(1).
وقد جاءت آراء مدرسة ستانفورد بأقطابها إدوارد شو(2) Shaw (1973) ورونالد ماكينون McKinnon (1973) لتربط بين التنمية المالية والتحرير المالي والنمو الاقتصادي ولكي تحيي آراء جوزيف شوميتر التي ترجع لعام (1912) (3). حيث حدد بوضوح وظائف وحدات الوساطة المالية باضطلاعها بتعبئة المدخرات وتقييم المشروعات وإدارة المخاطر المصرفية ومراقبة أداء المشروعات، كما ربط بين هذه الأنشطة والخدمات وعملية التطوير التكنولوجي والإبداع والتنمية الاقتصادية.
ثم جاءت نماذج النمو الداخلي Endogenous Growth Models التي ظهرت في دراسة رومر Romer (1986) ولوكاس Lucas (1988)(4) لكي تظهر أن الاستثمار في شكل تراكم لرأس المال المادي أو لرأس المال البشري تصاحبه وفورات خارجية موجبة، حيث أن الاستثمار لا يرفع من المقدرة الإنتاجية للمنشأة فقط ولكن يرفع من المقدرة الإنتاجية للمنشآت الأخرى ذات العلاقة بهذه المنشأة. وقد دفعت هذه الافكار سولو Solow (1994)(5) للبحث من جديد في نظرية النمو الاقتصادي والتعرف على محددات النمو الاقتصادي فيما شبهه سولو Solow بالنيران المتأججة.
والقطاع المالي والمصرفي يمكنه أن يسهم في عملية النمو الاقتصادي من خلال تمويل الاستثمار، شريطة أن يكون هذا القطاع متطوراً وذا كفاءة في القيام بوظائفه من خلال القيام بوظيفة الوساطة المالية وإدارة المخاطر. حيث تخفض وحدات الوساطة المالية من مخاطر المعاملات وتعمل على زيادة معدل التراكم الرأسمالي وبتطور القطاع المالي ومؤسساته تزداد القدرة على انتقاء المشروعات ومتابعة أدائها.
هذا وقد شهدت الساحة الدولية في السنوات الأخيرة الكثير من التحولات والمستجدات والمتغيرات العالمية في ظل العولمة Globalization التي تقوم على تحرير المبادلات التجارية والمالية مع الاندماج في الاقتصاد العالمي في ظل التكتلات الاقتصادية والكيانات العملاقة.
وكان القطاع المصرفي من أهم القطاعات الاقتصادية وأكثرها تأثراً بالمتغيرات الدولية المتمثلة في التطورات التكنولوجية وعالمية الأسواق المالية والتحرر من القيود التي تعوق الأنشطة المصرفية والاتجاه إلى تطوير وإدارة مخاطر الإقراض في ظل المعايير الدولية لضبط الأداء المصرفي المتمثلة في معايير كفاية رأس المال التي عرفت باسم مقررات لجنة بازل التي أعلنت في عام 1988 التي ألزمت الدول الأعضاء في لجنة بازل بتوحيد طرق الرقابة من قبل البنوك المركزية ورفع نسبة كفاية رأس المال لدى البنوك لتصبح في حدود 8% من مجموع أصولها الخطرة. لذلك تحرص الحكومات على وضع نظم للرقابة المصرفية والإشراف على البنوك بهدف استقرار النظام المالي وضمان كفاءة النظام المصرفي بما يتواءم مع التطورات العالمية المتلاحقة.
وقد اكتسب موضوع كفاية رؤوس أموال البنوك أهمية كبرى في السنوات الأخيرة في ضوء التطورات المالية والمصرفية المتلاحقة. من أجل تلافي انتقال مخاطر العمل المصرفي بين الدول الصناعية بعضها البعض أو من الدول الأخرى.
وعلى الرغم من الانتقادات العديدة التي وجهت لاتفاقية بازل نظراً لانحيازها لصالح الدول الصناعية. فقد أصبح من المتعارف عليه أن تقيم ملاءة البنوك في مجال المعاملات الدولية يرتبط بدرجة كبيرة بمدى استيفائها لحدود معيار كفاية رأس المال.
ثم قامت لجنة بازل بإجراء بعض التعديلات لتطوير أسلوب حساب معدل كفاية رأس المال. وقد تمثلت المقترحات الجديدة التي تم الإعلان عنها في سبتمبر 1999 في توسيع قاعدة وإطار كفاية رأس المال بما يضمن تحقيق الأهداف التالية:
1. المزيد من معدلات الأمان وسلامة ومتابعة النظام المالي العالمي.
2. تدعيم التساوي والتوازن في المنافسة بين البنوك دولية النشاط وضمن تكافؤ الأنظمة والتشريعات.
3. إدراج العديد من المخاطر وإيجاد نماذج اختبار جديدة أكثر ملاءمة للتطبيق في البنوك على كافة مستوياتها.
وضماناً لتحقيق تلك الأهداف أرست لجنة بازل للرقابة المصرفية في 16 يناير 2001 مقترح "اتفاق بازل الجديد لكفاية رأس المال" ومن المنتظر أن يتم تنفيذ تلك المعايير عام 2005. وذلك من أجل تلافي قصور المعايير السابقة وتقوم المعايير الجديدة على ثلاث ركائز أساسية. لتحقيق درجة أكبر من التناسب بين رأس مال البنك وأصوله الخطرة على أن يقترن ذلك بتدعيم فعالية الدور الرقابي للبنوك المركزية والسلطات النقدية وأهمية إفصاح البنوك عن قدر أكبر من المعلومات بشأن التزامها بمعايير كفاية رأس المال.
وقد أكد خبراء المصارف أن المعايير المصرفية التي أقرتها "بازل" سيكون لها صدى كبير في تقليل المخاطر الائتمانية وإعادة الانضباط إلى السياسة الائتمانية التي شابها بعض العيوب خلال السنوات القليلة الأخيرة، والتي كان من نتيجتها ظاهرة التعثر المصرفي.
وطالب الخبراء بالتطبيق الفعلي والحرفي لهذه المعايير واتباع الوسائل الحديثة في التطبيق بجانب التدريب العملي المتخصص للقائمين على تنفيذ هذه القواعد المصرفية التي يكون الجهاز المصرفي في أشد الحاجة إليها لإدارة الائتمان بأسلوب مصرفي سليم قائم على البحث والدراسة والمتابعة الدقيقة.
وقد تعرض اتفاق بازل الجديد للرقابة المصرفية لعدة انتقادات منها عدم تحديده بشكل واضح لمخاطر التشغيل Operational Risk.
كما ترى البنوك الكبرى أن النسبة المقترح تخصيصها من رأس مال البنك لمواجهة مخاطر التشغيل (20%) تعتبر بالغة الارتفاع. كما يرى البعض أنه يجب تخفيض الشريحة المخصصة من رأس المال لتغطية تلك المخاطر بالنسبة للبنوك الواقعة في الاقتصادات الناشئة عن نظيرتها في الاقتصادات المتقدمة نظراً لتطبيق البنوك في الاقتصادات الناشئة لأساليب تكنولوجية، ونظم للمقاصة وتسوية المدفوعات أبسط وأقل تقدماً بالمقارنة بنظيرتها في الاقتصادات المتقدمة.
كما تعرض اقتراح الاعتماد على تقييم مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية كأحد المحددات الرئيسية لتحديد الأوزان النسبية المستخدمة في ترجيح مخاطر أصول البنوك لعدة انتقادات. وبذلك يمثل الإطار الجديد لمعايير لجنة بازل منعطفاً هاماً في مستقبل عمل القطاع المصرفي.
أهداف البحث:
1. التأكيد على أهمية مقررات لجنة بازل في وضع معايير وقواعد موحدة لضبط أداء العمل المصرفي وفي معالجة مشكلة التعثر المصرفي التي تصاحب "التحرير المالي" في مراحله الأولى.
2. التأكيد على أهمية الرقابة على العمل المصرفي في ضبط أداء البنوك على النحو الذي يضمن سلامة مراكزها المالية ويحول دون تعرضها للانهيار.
3. التأكيد على أهمية معايير لجنة بازل في دفع مخاطر عمليات وآليات تدويل العمل المصرفي.
4. التركيز على أهمية معايير لجنة بازل في التأكيد على أن أي نظام لمراقبة المخاطر يجب أن يقوم على تحديد جميع المخاطر التي تواجه البنوك وإدارتها.
5. التأكيد على أهمية الإطار المقترح للجنة بازل في علاج مشكلة التصنيف مرتفع المخاطر للدول خارج منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية Non OECD وبالتالي تخفيض تكلفة الموارد التي تحصل عليها عن طريق الاقتراض.
6. التأكيد على استمرار مراجعة الإجراءات الرقابية على كفاية رأس المال باعتبار أن كفاية رأس المال هي ضمانة ضرورية للاستقرار المصرفي.
7. التأكيد على دور الإطار المقترح للجنة بازل في مراعاة عملية توريق الأصل Asset Securitisation التي تؤدي إلى توزيع المخاطر المخاطر وخفضها.
8. التأكيد على دور الإطار المقترح في إعطاء خيارين لتحديد مخاطر الالتزامات على البنوك، إما بالاعتماد على تصنيف الدولة المسجل بها البنك أو بالاعتماد على تصنيف البنك ذاته.
فروض البحث:
- إن خلق وإيجاد قطاع مصرفي قادر على حشد وتخصيص الموارد المالية لخدمة الأغراض التنموية وتقليل المخاطر الائتمانية قد أصبح ضرورة حيوية لتحقيق معدلات نمو عالية وقابلة للاستمرار.
- إن تحديث الصناعة المصرفية والحد من تزايد المخاطر الائتمانية والمصرفية، وإيجاد المناخ المناسب للائتمان لضمان تفعيل الرقابة على مخاطره يعد من المرتكزات الأساسية للرؤية المستقبلية للصناعة المصرفية.
- إن رفع مستوى أداء القطاع المالي والمصرفي في قيامه بوظيفة الوساطة المالية وإدارة المخاطر يسهم في تحقيق النمو الاقتصادي من خلال تمويل الاستثمار.
- إن قيام وحدات الوساطة المالية واضطلاعها بعملية تعبئة المدخرات وتقييم المشروعات وإدارة المخاطر المصرفية ومراقبة أداء المشروعات يؤكد عملية الربط بين التنمية المالية والتحرير المالي والنمو الاقتصادي.
- إن زيادة القدرة التنافسية وانطلاقة الصناعة المصرفية تعد ضرورة هامة لتحقيق النمو الاقتصادي في ظل تحرير تجارة الخدمات والتحديات الدولية.
محتويات الدراسة:
مقدمة:
الفصل الأول: المناخ العام للصناعة المصرفية في ظل التحولات والمستجدات والمتغيرات الدولية:
أولاً: أوضاع القطاع المالي ودواعي التحرير في ظل التحولات والمستجدات الدولية.
ثانياً: المناخ العام للصناعة المصرفية في العالم في ظل التحولات الدولية.
ثالثاً: أثر التحولات الدولية على العمل المصرفي.
رابعاً: الاتجاهات الحالية والقضايا الاستراتيجية التي تواجه البنوك.
الفصل الثاني: الرقابة المصرفية وإدارة المخاطر والاتجاهات الجديدة في شأن جهات الرقابة المصرفية :
أولاً: نظم الرقابة المصرفية وأهدافها.
ثانياً: إدارة المخاطر المصرفية والتعثر المصرفي.
ثالثاً: الفصل بين وظائف الرقابة على البنوك ووظائف رسم وتنفيذ السياسة النقدية.
رابعاً: استقلال البنوك المركزية.
الفصل الثالث: معايير لجنة بازل لتطوير الرقابة المصرفية وتقليل مخاطر الائتمان:
أولاً: جهود لجنة بازل لتطوير الرقابة المصرفية.
ثانياً: المتطلبات الأساسية الواجب توافرها لممارسة رقابة مصرفية فعالة.
ثالثاً: مبادئ لجنة بازل للرقابة المصرفية الفعالة.
رابعاً: المعايير الجديدة للجنة بازل وإعادة النظر في مفهوم الكفاية.
الفصل الرابع: الانتقادات التي وجهت لاتفاق بازل الجديد لكفاية رأس المال ومستقبل العمل المصرفي في ظل هذا الإطار الجديد:
أولاً: مضمون الإطار الجديد للجنة بازل في ظل الآراء المؤيدة له.
ثانياً: الآراء المعارضة والانتقادات التي وجهت لاتفاق بازل الجديد.
ثالثاً: مستقبل العمل المصرفي في ظل الإطار المقترح للجنة بازل.
رابعاً: القواعد الرقابية الجديدة للجنة بازل وأثرها على الجهاز المصرفي المصري.
- الخاتمة.
- الهوامش.
الفصل الأول
المناخ العام للصناعة المصرفية في ظل التحولات والمستجدات
والمتغيرات الدولية
أولاً: أوضاع القطاع المالي ودواعي التحرير في ظل التحولات والمستجدات الدولية.
ثانياً: المناخ العام للصناعة المصرفية في العالم في ظل المستجدات العالمية.
ثالثاً: أثر التحولات والمستجدات العالمية على العمل المصرفي.
رابعاً: الاتجاهات الحالية والقضايا الاستراتيجية التي تواجه البنوك.
الفصل الأول
المناخ العام للصناعة المصرفية في ظل التحولات والمستجدات
والمتغيرات الدولية
أولاً: أوضاع القطاع المالي ودواعي التحرير في ظل التحولات والمستجدات الدولية
ظلت القطاعات المالية في الدول النامية لعقود طويلة محل تدخل مستمر من قبل الحكومات سواء في هياكلها ومؤسساتها أو في آليات عملها. ولا يعتبر التدخل ذا طبيعة إصلاحية لفشل السوق Market Failure، ولكنه كان تدخلاً كابحاً Repressive للنشاط الاقتصادي في القطاع المالي بصفة عامة والجهاز المصرفي بصفة خاصة.
ويطلق ماكينون تعبير الكبح المالي Financial Repression على الحالات التي تتدخل فيها الدولة بوسائل ضريبية أو أدوات أخرى مثل وضع سقوف Ceilings على أسعار الفائدة والتدخل في توظيف الائتمان في النشاط المالي، بما يشوه آليات السوق ويحيد بها عن العمل وفقاً لاعتبارات العرض والطلب على الأرصدة المتاحة للإقراض والاستثمار وينحرف بالقطاع المالي بعيداً عن مقتضيات الكفاءة الاقتصادية(7).
ولم يكن تدخل الدولة كبحاً للنشاط المالي دون مبررات والتي يمكن تقسيمها إلى أربعة مجموعات من الأسباب الداعية لهذا التدخل:
1. أوضاع القطاعات المالية في الدول النامية بعد استقلالها: حيث عانت هذه الدول من مشكلات متعددة تعد من أشكال فشل السوق، حيث كانت الأسواق المالية تتصف بالتشرذم Segmentation والضحالة Shallowness في ظل غياب كثير من الخدمات والأدوات والأوعية المالية أو وجود بعضها بقدر كبير من القصور. كما كان يشوب السوق احتكار لقلة من وحدات الوساطة للأنشطة المختلفة، بما صاحب ذلك من استغلال لمراكز احتكارية في ظل انعدام رقابة مالية فعالة، كما لم تتح معلومات كافية عن المتعاملين المحتملين من مدخرين ومقترضين بما كرس ظاهرة تباين المعلومات مسببة زيادة درجة المخاطرة في إجراء المعاملات المالية والاعتماد على اعتبارات غير سعرية في توظيف الائتمان(8).
2. أثر قوانين الربا Usury Laws: حيث احتكمت بعض النظم التشريعية في البلدان النامية إلى تعريف للربا على أنه سعر الفائدة المرتفع المغالى فيه، فقامت بوضع سقوف على أسعار الفائدة الاسمية بحيث تتراوح بين 3% و 7% في أكثر التشريعات الاقتصادية التي تأثرت بقوانين الربا الغربية(9).
3. تأثر السياسة الاقتصادية في الخمسينيات والستينيات بالآراء الكينزية فيما يتعلق بتفضيل السيولة Liquidity Preference، حيث أكد كينز أن منافسة البنوك في حفز الأفراد للتخلي عن السيولة وإبداع مدخراتهم لديها جعلهم يرفعون أسعار الفائدة الاسمية إلى مستويات تتعدى سعر الفائدة الحقيقي التوازني الذي يتحقق عنده التشغيل الكامل، بما دفعه إلى اقتراح وضع سقوف على أسعار الفائدة الاسمية(10).
4. الحاجة إلى تمويل عجز الموازنة العامة والمشروعات الكبرى التي تقوم بها الدولة تمويلاً منخفض التكاليف. إذا اعتبر التمويل بالعجز في هذا الوقت وسيلة مقبولة لتمويل التنمية في ظل محدودية الموارد المتاحة للدولة وعجز القطاع الخاص عن القيام بعملية التنمية(11). وقد رؤى أن كبح القطاع المالي من شأنه أن يوفر تمويلاً منخفض التكلفة لسد عجز الموازنة العامة للدولة. وقد استخدمت عدة أدوات لتنفيذ سياسات الكبح المالي التي اتبعتها الدول النامية وبعض الدول المتقدمة اقتصادياً قام بتلخيصها هانسون ونيل Hanson and Neal (1986) وفراى Fry (1995) وموريس وآخرون Morris et al (1990) فيما يلي(13):
1. تحديد أسعار الفائدة إدارياً عن طريق فرض سقوف لا تتعداها أسعار الفائدة الدائنة والمدينة.
2. دعم الفائدة على القروض الموجهة لبعض المشروعات.
3. التدخل في توجيه الائتمان عن طريق وضع حد أقصى للائتمان الموجه لبعض القطاعات الاقتصادية وحد أدنى لقطاعات أخرى.
4. رفع نسبة الاحتياطي القانوني التي تلتزم البنوك بإيداعها لدى البنك المركزي، دون عائد في أغلب النظم، بما يتعدى أغراضها الرقابية ودورها في السياسة النقدية والائتمانية ليجعلها ضريبة مستترة على عملية الوساطة المالية(14).
5. فرض نسب سيولة عالية والمبالغة في مكوناتها من الأوراق المالية الحكومية منخفضة العائد بطريقة تقيد إدارة المحفظة المالية للبنوك وتخفض من عائدها.
6. التدخل في إدارة المؤسسات المالية عن طريق الملكية المباشرة لرؤوس أموالها. وكان ذلك في أغلب الأحوال عن طريق عمليات التأميم والمصادرة لملكيات الأجانب والقطاع الخاص في الدول النامية بعد الاستقلال.
7. فرض قيود على حرية الدخول في القطاع المالي بتقييد التراخيص الجديدة ومنع المؤسسات الأجنبية من تملك رؤوس أموال المؤسسات المالية أو وضع قيود على هذه الملكية بنسب لا تتعداها. وكثيراً ما صوحبت القيود المفروضة على حرية الدخول بقيود على عملية الخروج من السوق بمنع البنوك ووحدات الوساطة المالية من التصفية وبتعقيد عمليات الدمج والاستحواذ Merger and Acquisition، بما حجم من آليات السوق وما يمكن أن تفرضه من نظام تحكمه المنافسة والدافع إلى تعظيم الربح بما يرفع من كفاءة الوساطة المالية(15).
لقد أدى اتباع هذه الأدوات الكابحة للقطاع المالي إلى عواقب وخيمة أكدتها أدبيات التنمية المالية(16) والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:
1. أدى التحكم الإداري في أسعار الفائدة بوضع سقوف عليها في الدول ذات معدلات تضخم مرتفعة إلى جعل سعر الفائدة الحقيقي سالباً، وقد أدى هذا إلى دفع بعض المدخرين المحتملين إلى توجيه مدخراتهم إلى مشروعات منخفضة العائد يقومون بها بأنفسهم بدلاً من توجيهها للاستثمار عن طريق ادخارها بواسطة مؤسسات القطاع المالي.
2. أدى الانخفاض المفتعل للتمويل المصرفي، بسبب سقوف أسعار الفائدة، إلى اختيار مشروعات كثيفة رأس المال في مجتمعات كان الأولى بها أن تتجه إلى مشروعات كثيفة العمل وفقاً لمزاياها النسبية في هذا العنصر من حيث وفرته.
3. يترتب على ارتفاع معدلات التضخم في ظل الكبح المالي عدم استقرار لمكونات المحافظ المالية حيث يتحول توظيف المدخرات واستثمارها من الأصول المالية ذات العائد الحقيقي السالب إلى أصول مادية تتغير أسعارها بمعدل يساوي أو يزيد عن معدل التضخم فيما يعرف بوسائل التوقى من التضخم Inflation Hedges مثل العقارات وبعض السلع المعمرة والذهب.
4. كما يؤدي الكبح المالي إلى تدهور العائد إلى الأصول المالية المقومة بالعملة المحلية مما يؤدي إلى النزوع إلى التخلي عنها كمخزن للقيمة، بل وكوسيط للمبادلة، وللجوء إلى العملات الأجنبية فيما يعرف بإحلال العملات Currency Substitution(17).
5. كما يدفع الكبح المالي إلى اللجوء إلى أنشطة القطاع المالي غير الرسمي إقراضاً واقتراضاً رغم ما يتميز به من ارتفاع درجة المخاطرة، وقد عرفت الدول النامية اشكالاً متعددة من أنشطة القطاع المالي غير الرسمي، كنظام الجمعيات والمقرضين المحترفين أو المرابين، ونظم الائتمان غير الرسمي المضمونة بعقود عمل أو إيجار رسمية Tied-Credit(18).
6. كما أسهم الكبح المالي، بالإضافة إلى عوامل اقتصادية وسياسية أخرى، في هروب رؤوس الأموال من الاقتصادات النامية إلى أسواق المال الأجنبية التي توفر عائداً حقيقياً موجباً وبمخاطرة أقل نسبياً مما هو قائم في القطاعات المالية التي تخضع للتدخل المشوه لآليات السوق والتي تفتقر إلى الشفافية Transparency في إجراء المعاملات.
7. أدى ارتفاع الضرائب المستترة على الودائع والعمليات المصرفية، مثل معدل الاحتياطي القانوني ونسبة السيولة المبالغ فيها، إلى ارتفاع هامش أسعار الفائدة وتدني كفاءة الوساطة المالية.
8. تسبب التدخل في توظيف الائتمان وتوجيهه إدارياً واستخدام أساليب غير سعرية في اتخاذ القرارات الائتمانية إلى تفاقم مشكلة القروض غير المنتظمة أو الراكدة Non-Performing وانخفاض ربحية البنوك.
وقد أدت هذه النتائج المترتبة على سياسات الكبح المالي إلى اتجاه كل من ماكينون وشو في عام 1973 وعدد من الاقتصاديين إلى التأكيد على أن هذه السياسات قد تسببت في تدن مستمر لكفاءة الوساطة المالية وفي تشويه أسواق المال بما يتطلب إصلاح الأمر عن طريق سياسات التحرير المالي والتي تستهدف إزالة كافة أدوات الكبح المالي التي دأبت الدول النامية على اتباعها، بما يؤدي إلى تحقيق التنمية المالية وزيادة المدخرات وتحسن حجم ونوعية الاستثمار ومن ثم دفع معدلات النمو الاقتصادي، على النحو الذي يوضحه الإطار العام النظري لنماذج مدرسة ستانفورد والاجتهادات النظرية المطورة لها والتي تحاول أن تظهر وجود علاقة إيجابية سببية بين التحرير المالي والنمو الاقتصادي.
ثانياً: المناخ العام للصناعة المصرفية في العالم في ظل المستجدات العالمية
يعد القطاع المصرفي من أهم القطاعات الاقتصادية وأكثرها تأثيراً واستجابة للمتغيرات سواء الدولية أو المحلية. وتتمثل أهم تلك التغيرات في التطورات التكنولوجية، عالمية الأسواق المالية، والتحرر من القيود التي تعوق كل الأنشطة المصرفية، إزالة الحواجز التي تمنع بعض المؤسسات المالية، من العمل في قطاعات معينة، والاتجاه إلى تطوير وإدارة مخاطر الإقراض كل هذا في ظل تزايد حدة المنافسة الدولية في هذا القطاع مع السعي لاستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية مع ظهور الكيانات المصرفية العملاقة(19).
وتتمثل أهم مظاهر هذه المستجدات فيما يلي:
1. التقدم في مجال الاتصالات والمعلومات: عزز قدرة البنوك والأسواق المالية في استخدام الفرص المتاحة في ظل مناخ التحرر المالي وأدى أيضاً النمو السريع في سوق الأوراق المالية، وساعد التقدم التكنولوجي – كذلك – على إلغاء القيود بين القطاعات والدول وإلى الحد من القيود الرسمية بتدفقات رؤوس الأموال وإلى ابتداع عدد من المنتجات التمويلية الحديثة.
2. تراجع أهمية المصارف: لازدياد حركة نشاط الأسواق المالية والبورصات والمؤسسات المالية غير المصرفية.
3. توسع البنوك في تقديم الخدمات غير التقليدية التي تتواءم مع إيقاع العصر الحديث فظهرت المشققات المالية بأنواعها وتطورت مفاهيم إدارة المخاطر وغيرها من التحولات التي أدت إلى تنوع في أنشطة البنوك عامة.
4. أدت التطورات الحديثة إلى تغير العديد من المفاهيم التقليدية السائدة وخاصة فيما يتعلق بالتقسيم التقليدي للبنوك وفق أنشطتها وزاد عدد البنوك التي تعمل في كل من مجالي العمليات التجارية ومجالات الاستثمار والأعمال على حد سواء وذلك بالإَضافة إلى قائمة طويلة من الخدمات المتطورة المعتمدة على تكنولوجيا الحاسبات في الاتصالات والمعلومات التي يمكن للعميل من خلالها تنفيذ كل معاملاته من منزله أو سيارته عن طريق الحاسبات الشخصية المتصلة بالبنوك.
5. تزايد دور المؤسسات ذات الصفة العالمية مثل بنك التسويات الدولية BIS في الإشراف على المؤسسات المصرفية العالمية بدءاً من مقررات بازل عام 1988 وما بعدها بإصدار كثير من التوجيهات الخاصة بالرقابة والإشراف والإفصاح والشفافية والحد من المخاطر التمويلية وغيرها(20).