الثورة الريفية بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي
خاض محمد بن عبد الكريم الخطابي كفاحا مسلحا ضد فرنسا وإسبانيا بسبب احتلالهما للمغرب، وقد أظهر وأنصاره وفاء وطنيا عاليا، وقدرة قتالية أبهرت العديد من الحركات الوطنية في الكثير من المناطق خاصة لدى الشيوعيين الصينيين بقيادة ماوتسي تونغ، والشيوعيين الفيتناميين بقيادة هوشي منه.
لقد أصبحت الثورة الريفية بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي تراثا زاخرا بالتجارب والدروس بأساليب الحرب الشعبية، فقد كانت له الريادة في تطبيق فنون قتالية لم تكن مألوفة، مثل استحداث فرق المهمات الصعبة، وحرب العصابات، وتنظيم الجيش الشعبي القادر على خوض أطول المعارك بالاعتماد على التمرين الذاتي.
ورغم أن إمكانية الوطنيين في الريف ( Arifمنطقة يسكنها شعب امازيغي شمال المغرب) كانت ضئيلة وغير كافية لخوض حرب العصابات، وذلك لمواجهة أكبر قوتين عسكريتين هما فرنسا وإسبانيا، وكان من الصعب مواجهة رجال وأطر عسكرية كفأة مثل الجنرال الإسباني يريمو دوريفييرا والمارشالين الفرنسيين ليوطي وبيتان.
وتعد معركة أنوال من أهم المعارك التي شهدها العالم الحديث في القرن العشرين. وقد خاضها الريفيون بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي ضد الاستعمار الأسباني معتمدا في ذلك على حرب شعبية كان لها صيت عالمي كبير.إذن ما هي أسباب ودواعي هذه الحرب الضروس؟ وما هي الخطة التي اتبعها محمد بن عبد الكريم الخطابي في هذه المعركة؟ وما هي نتائجها؟
خرج مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة1906 بوضع المغرب تحت الحماية الأجنبية. فاستهدفت اسبانيا شماله وجنوبه، بينما ركزت فرنسا على وسطه. أما طنجة فكانت منطقة دولية. لقد واجهت إسبانيا أثناء تغلغلها في منطقة الريف الشرقي مقاومة شرسة وحركة جهادية قادها محمد الشريف أمزيان من سنة 1906 إلى 1912. وكانت حملة الشريف الدفاعية منصبة على عرقلة تغلغل الأسبان في أزغنغان بعد مده للسكة الحديدية لاستغلال مناجم الحديد في أفرا وجبل إكسان. وقد كبد الشريف الأسبان خسائر مادية وبشرية، كما قضى على ثورة الجيلالي الزرهوني أو ما يسمى بو حمارة أو الروكي.
وبعد موت الشريف أمزيان في 15 ماي 1912 ستواصل أسرة عبد الكريم الخطابي النضال المستميت ضد التكالب الاستعماري: الأسباني و الفرنسي. وستقف في وجه أطماع الحكام الأسبان والطبقة الأرستقراطية المناصرة لسياسة الحرب وأطماع الحزب الحاكم في اسبانيا. ولما أحس محمد بن عبد الكريم الخطابي بأطماع أسبانيا في الريف الشرقي التي تتمثل في احتلال الحسيمة والحصول على خيرات الريف واستغلال معادنها بعد استيلائها على الناظور وتطوان والاستعداد للانقضاض على ثورة الريسوني لاحتلال شفشاون، قرر محمد بن عبد الكريم الخطابي أن يؤسس إمارة جهادية؛ وذلك بتوحيد قبائل الريف مثل: كزناية و بني ورياغل و بني توزين وتمسمان... وأسس إمارته على أحكام شريعة الله وأنظمة الإدارة الحديثة، وأبعد الريفيين عن الفوضى و الثأر، وأجبرهم على الاحتكام إلى عدالة الشرع والقضاء الإسلاميين. هذا وقد أحدث عهد محمد بن عبد الكريم الخطابي قطيعة بين عهدين: عهد السيبة والفوضى الذي يمتد من أواخر القرن 19 إلى أوائل العقد الثاني من القرن العشرين بكل ما شهده من نعرات عشائرية، وعهد الثورة التحريرية الممتدة من1921الى 1926، إذ عرف الريف عدة إصلاحات وفي مقدمتها القضاء على الفوضى و الثأر.
ولما عرف محمد بن عبد الكريم الخطابي نوايا حكومة أسبانيا الاستعمارية نظم جيشه أحسن تنظيم على الرغم من نقص العدد والعدة، وكان مثالا في الشجاعة والبطولة و العدل والتشبع بالإسلام؛ لذلك اتخذه الريفيون بطلا جماهيريا يقود ثورة شعبية من الجبليين والفلاحين للدفاع عن ممتلكاتهم و أعراضهم باسم الجهاد والحق المبين. ولا يعني هذا أن إمارة الريف مستقلة عن السلطة المركزية؛ بل كانت موالية لها ولكن فرضتها الظروف المرحلية و العسكرية. وقد أثبت جرمان عياش في كتابه "أصول حرب الريف" هذه التبعية والولاء عندما أقام المؤلف "لائحة بأسماء عمال مخزنيين تشهد على استمرار حضور ممثلين عن المخزن في الإقليم، كما كشف عن وجود ست قصبات في مختلف أنحاء الريف ترابط بها حاميات مخزنية. وكل هذا يدل على أن الريف كان خاضعا للسلطة المركزية على عكس ما تدعيه الروايات الأجنبي. ولم تكن ثورة الريف التحريرية بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي بدافع إقليمي؛ بل كانت بدافع وطني ضد الاستعمار، وبدافع قومي لتحرير الشعوب الإسلامية من ربقة الاستعمار والجهل والتخلف. وإذا انتقلنا إلى سيناريو معركة أنوال، فقد بدأت إسبانيا تعقد أملا على احتلال خليج الحسيمة بعد أن عقد المقيم العام الجنرال بيرينغير صلحا مع قبائل الريف، واستقبل بحفاوة من أعيان بعض القبائل وبعض رؤسائها. وعاد المقيم العام إلى تطوان متفائلا مسرورا و مشيدا بعمل سلفستري القائد العام للجيوش الغازية المعتدية. كما اطمأن وزير الحرب الأسباني"إيزا" إلى هذا الوضع المريح عسكريا و سياسيا. و على الرغم من هذا التفاؤل الزائد، كان الريفيون وخاصة رجال بني سعيد وبني وليشك وأهل كرت على أهبة للانقضاض على عدوهم سلفستري الذي أحرق غلتهم و منازلهم، وصادر أغنامهم دون أن يدفع لهم تعويضا مقابلا عن ذلك؛ ودفع البعض منهم إلى الهجرة نحو الجزائر خوفا من بطشه، و من موت الفقر والجفاف. هذا، وقد اتفق الجنرال بيرينغير مع رئيس الشرطة الأهلية بمليلية الكولونيل غبريل موراليس على التوجه نحو الريف للتفاوض مع محمد بن عبد الكريم الخطابي ؛ وذلك بإغرائه بسبعة ملايين دولار، زيادة على أسلحة حديثة و جميع أنواع الذخيرة التي تمكنه من مقاومة الجيش الفرنسي مقابل التنازل عن خليج الحسيمة. لكن محمد بن عبد الكريم الخطابي رفض هذه المساومات، وأصدر أمرا يقضي بفرض غرامات على كل من يتفاوض مع الأسبان في هذه القضية المصيرية، كما هدد الأسبان بعدم اجتيازهم "وادي أمقران" و إلا سيتصدى لهم الأبطال الأشاوس من بني ورياغل وتمسمان و بني توزين. وقد أثار هذا التهديد حفيظة سلفستري، و قرر غزو المنطقة ساخرا من تهديدات محمد بن عبد الكريم الخطابي ومستصغرا من شأنه ومن عدته الحربية. و بعد ذلك، بدأ سلفستري في بناء الثكنات والحاميات العسكرية لتسهيل الإمدادات الحربية وتأمين وجود قواته وتمركزها بشكل أفضل ومقبول في كل المناطق الريفية الإستراتيجية، فاقترب الجنرال من ظهار أبران في أواخر شهر ماي1921 لمحاصرة الموقع، وجس النبض؛ بيد أن الريفيين تصدوا للجيش الغازي و ألحقوا به هزيمة شنعاء.
و يعترف محمد بن عبد الكريم الخطابي بغلطته الكبرى عن عدم استرجاعه لمليلية في مذكراته على إثر معركة جبل العروي، حيث وصلت القوات الريفية أسوار مليلية، وتوقفت، وكان الجهاز العسكري ما يزال في طور النشوء. فكان لابد من السير بحكمة، وكانت الحكومة الأسبانية قد وجهت نداء عاليا إلى مجموع البلاد، وتستعد لأن توجه إلى المغرب كل ما لديها من إمدادات، فتم الاهتمام بمضاعفة القوات الريفية وإعادة تنظيمها، حيث أعطيت الأوامر إلى كل سكان الريف الغربي، وتم الإلحاح على الجنود وعلى الكتائب الجديدة الواردة مؤخرا، بكل قوة، على ألا يسفكوا بالأسرى ولا يسيئوا معاملتهم، كما صدر الأمر في نفس الوقت وبنفس التأكيد، على ألا يتم احتلال مليلية، اجتنابا لإثارة تعقيدات دولية. ومن نتائج معركة أنوال ما غنمه الريفيون من عتاد عسكري حديث يقدر ب 200 مدفع من عيار 75 أو65 أو 77، وأزيد من 20000 بندقية ومقادير لا تحصى من القذائف وملايين الخراطيش، وسيارات و شاحنات، وتموينا كثيرا يتجاوز الحاجة, وأدوية، وأجهزة للتخييم، و بالجملة، بين عشية وضحاها و بكل ما كان يعوزنا لنجهز جيشا و نشن حربا كبيرة، وأخذنا 700أسير، وفقد الأسبان 15000 جندي ما بين قتيل و جريح. وكان لهذا الانتصار الريفي في معركة أنوال صدى طيب على المستوى الوطني والعربي، وقيل الكثير من الشعر للإشادة بهذه النازلة العظيمة؛ وقد شاع بعد ذلك أن بعض الأدباء جمع ما قيل في موضوع الحرب في ديوان سماه"الريفيات"، وعلى المستوى الإعلامي، وقف الرأي العالمي من الحركة التحريرية الريفية موقفين متقابلين: موقف مؤيد وموقف معارض. " فالتيار المعارض هو بطبيعة الحال، التيار الكولونيالي المتشبع بالفكر الاستعماري الذي له مصالح كثيرة و مشاريع لها علاقة بالمستعمرات، حيث كان من الطبيعي أن يقف مدافعا و مؤيدا لكل السياسات التي كانت ترمي إلى تقوية النفوذ الاستعماري و خدمة أطماعه، ولكن بأقل التضحيات، وكان هذا التيار يتكون من اليمين الأوربي بمفهومه الواسع، ومن النخبة الأرستقراطية بصفة خاصة. وقد انضافت إليه، ومن تلقاء نفسها، أصوات يهودية كانت تعتبر نجاح الثورة الريفية بمثابة القضاء الأكيد على تواجد الجاليات اليهودية بالشمال الإفريقي... أما التيار الثاني، فقد كان يشكله أساسا الرأي العام الشيوعي... أما في أمريكا اللاتينية، فكان ينظر إلى محمد بن عبد الكريم الخطابي بمثابة بطل ثوري عالمي يشبه عندهم سيمون بوليفار أحد رواد الحركة التحريرية هناك. أما الرأي العام الإسلامي فقد كان يعلق آمالا كثيرة على نجاح الثورة الريفية، وعبر عن استنكاره في أكثر من مناسبة تضامنا مع المسلمين في الريف؛ لكنه كان مغلوبا على أمره. ولقد اتخذت خطة محمد بن عبد الكريم الخطابي الحربية تكتيكا عسكريا لدى الكثير من الزعماء والمقاومين في حركاتهم التحريرية عبر بقاع العالم لمواجهة الإمبريالية المتغطرسة مثل:هوشي منه وماوتسي طونغ و عمر المختار وتشي غيفارا وفيديل كاسترو، ولا ننسى كذلك الثورتين:الجزائرية و الفلسطينية. وكانت لهذه الحرب انعكاسات سياسية وعسكرية خطيرة على إسبانيا وفرنسا بالخصوص؛ مما اضطرت هاتان الدولتان للتحالف مع بريطانيا للقضاء على الثورة الريفية قبل أن تستفحل شوكة محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي بدأ يهدد كيان فرنسا ويقض مضجعها. فشن التكالب الاستعماري هجوما عنيفا و كاسحا بريا و بحريا وجويا، واستعملت في هذه الحملة العدائية المحمومة أبشع الأسلحة المتطورة الخطيرة السامة لأول مرة؛ وتم تجريبها على الريفيين الأبرياء من أجل مطامع استعمارية دنيئة . ولقد انتهت هذه الهجمات المركزة على معاقل المقاومة الريفية باستسلام مجاهد السلام البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي يوم 26 ماي 1926، و نفيه إلى جزيرة لاريونيون"la réunion" إلى حدود سنة 1947؛ ليستقر بعد ذلك في مصر.