ثورات عربية ... عربية
أنها ثورات شعب كامل ضد نظام بأكمله، فالنداء الذي صرح به الجميع في تونس، ثم في مصر، ثم في اليمن وليبيا وسوريا هو نفس، النداء الذي يقول:" الشعب يريد إسقاط النظام"، فالثائر هو "الشعب" وهو الشعب الذي ترأس ثورته الشباب والأجيال الصاعدة بالأساس، وإن في ذلك عبرة، ذلك أن الذي كان في مقدمة الثورة هم الشبان الذين أرادوا أن يعبروا عن يأسهم من المستقبل الحالك، الذي تهيؤه لهم النظم الحاكمه وعن سخطهم إزاء ما آلت إليه البلاد في ظل ذلك الحكم المتحجر والمنحط، ثم إن هذه الثورة ركزت سخطها على "النظام"، في مفهومه الواسع بحيث أنها طالبت بـ" رحيل" ذلك النظام بأكمله برؤوسه وبجذوره وأذنابه، كما نادى بذلك المتظاهرون في تونس وفي مصر وفي اليمن وفي سوريا وكذلك في ليبيا.
وإن هذه الثورات فريدة في نوعها من حيث أنها عبرت عن أهدافها بشكل طريف جدا، إنه من المعلوم أن الثورات الشعبية تنتج في أغلب الأحيان عن انعدام التوازن الأدنى بين الطبقات المعدمة وعن النظام الاجتماعي والسياسي الذي يسلطه القوي على الضعيف، فتأتي الثورة منادية بادخال العدالة والسياسات الإصلاحية التي يعبر عنها الشعب الثائر في عدد من الطلبات يقحمها في قائمة مفصلة ومطولة، وإنه من المعلوم أن الحالة الاجتماعية في أكثر البلاد العربية تتميز بانعدام العدالة الاجتماعية وتفشي الفقر المدقع والبطالة، وكان من المتوقع أن تأتي الثورة منادية بهذه الطلبات وهذه الرغبات الاجتماعية، إلا أن المذهل هو أن الثورات العربية المعاصرة لم تكن مثقلة بمثل هذه الطلبات، بل إن الاتجاه الطلبي كان مركزا على مطلب أساسي وكلي يسبق كل المطالب الأخرى ويتعالى عليها فيعطي تلك الثورة سموا وعلوا قلما يوجد مثلها في الثورات المعاصرة، وهذا المطلب الأساسي والجوهري والذي أجمع عليه كل المتظاهرون في كل الثورات العربية المعاصرة هو مبدأ الكرامة البشرية الذي يعتبره كل المتظاهرون مبدأ جامعا لكل المطالب الأخرى ويتبوأ المنصب الأول فيها ويجدر بالجميع القيام بكل التضحيات، فتلك هي الكرامة التي تستوجب قلب النظام القائم بمعية أسسه السياسية والاقتصادية والاجتماعية واستئصال رموزه وهياكله وتشريعاته وممارساته اللا أخلاقية.
وإن هذه الحاجة الماسة إلى ابتكار نمط سياسي واقتصادي واجتماعي جديد تبرز بصورة واضحة من وراء أمر لافت للنظر اشتركت فيه كل الشعوب الثائرة اليوم: ذلك الأمر الهام هو أن هذه الشعوب تعاني من نفس الاختلالات في الحكم السياسي وفي الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية وتحتاج إلى قلب تلك الأنظمة والى تعويضها بنمط جديد يكون مؤسسا على نظرة ثورية للإنسان وللمجتمع محورها مبدأ الكرامة في بعده الإنساني والمجتمعي الرامي إلى إقرار ما تعني الكرامة من حقوق الإنسان والحق في الديمقراطية والحرية والعدالة والتضامن الاجتماعي.
وهذا هو التحدي الجديد الذي يواجه الثورة العربية والذي من مسؤولياتها التفاعل معه بجدية وحزم كبيرين إذا أرادت أن يكتب لها النجاح والخلود.