يوجه الحق - تبارك وتعالى - النظر، ويلفت الانتباه في هذه الآية الكريمة الى التأمل والتفكر في كيفية خلق الإبل، لما فيها من آيات الإعجاز في الخلق والتكوين· فللعقل مكان بارز، ومكانة رفيعة في القرآن الكريم، ذلك أنه أداة الإدراك والتفكير، ومن ثم فهو من شروط العبادات في الإسلام، ولذا فإن القرآن يهتم به، ويحض على إعماله، ويلفت النظر كثيرا لذلك· ففي الآيات البينات من سورة الغاشية يقول عز من قائل: >أفلا ينظرون الى الإبل كيف خلقت· والى السماء كيف رفعت والى الجبال كيف نصبت· وإلى الأرض كيف سطحت· فذكر إنما أنت مذكر· لست عليهم بمسيطر >الغاشية: 17-22 · والذي تجدر الإشارة إليه في هذا النسق القرآني المعجز هو البدء بلفت أنظارنا إلى قدرة الله في خلق الإبل قبل الإشارة الى الإعجاز في رفع السماء ونصب الجبال وتسطيح الأرض، وكلها آيات في الخلق والإيجاد والتكوين، لعل فيما أوردته الآيات الكريمة من أوجه الإعجاز ما يكون تذكيرا مفيداً لمن يريد أن يعمل فكره - بمحض إرادته- دون إرغام أو سيطرة، فيدخل في حظيرة الإيمان، ويكون ذلك مدعاة لنجاته يوم الحساب حيث العقاب أو الثواب· والله تعالى يضرب لنا الأمثال ويسوق لنا الآيات لعلنا نتذكر أو نتفكر، فالله تعالى يقول: {ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرونالجمل< مفردا بالنص الصريح مرة واحدة في معرض قوله تعالى عن استحالة دخول الكفار الجنة: {ولايدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَمّ الِخِيَاطِ}(الأعراف: 40)·
والمعنى أن الكفار لايدخلون الجنة حتى ينفذ الجمل من ثقب الإبرة، وهذا مستحيل· وقد ورد في القرآن الكريم أيضا لفظ >جمالة< وذلك في قولة تعالى: {إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر}(المرسلات: 33)، وفي أحد الأقوال أن جمالة جمع جمل (2) كحجارة جمع حجر·
أما لفظة العير فقد وردت في سورة يوسف ثلاث مرات، والعير القوم معهم حملهم من الميرة، يقال للرجال وللجمال معا، ولكل واحد منهما دون الآخر (3)· أما الناقة فهي أنثى الجمل، وقد وردت في القرآن الكريم في سبعة مواضع مختلفة، مرتان في سورة الأعراف، ومرة واحدة في كلٍ السور الآتية: هود - الإسراء - القمر - الشمس· أما لفظة البدن وهي تعني الإبل التي تهدى إلى البيت الحرام للتقرب إلى الله في موسم الحج (41) فقد وردت في قوله تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير}(الحج:36)·
وقد أورد الثعالبي في كتابه >فقه اللغة وسر العربية< نقلا عن المبرد بعض أسماء الإبل في أطوارها المختلفة: فالبكر بمنزلة الفتى، والقلوص بمنزلة الجارية، والجمل بمنزلة الرجل، والناقة بمنزلة الأنثى (5)·
وقد أثرت الإبل في حياة العربي من شتى جوانبها ولشدة التصاقه بها وقربة منها ومعايشته لها فقد استلهمها العربي في ضربه للكثير من أمثاله وحكمه ومنها·
>يخبط خبط عشواءاستنوق الجملشرب شرب الهيملكل أناس في بعيرهم خبرلا في العير ولا في النفيرما له ثاغية ولا راغية< أي ليس له شاة أو إبل· فالرغاء صوت الإبل والثغاء صوت الشياه·
وهناك غير ذلك من الأمثال والأقوال·
>كالعيس في البيداء< وأصله ما جاء من قول الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما··· والماء فوق ظهورها محمول
ويضرب في من يبذل الجهد ويحرم من عوائده، ويشبهه في العامية: >كحمار العنب، يحمله وهو منه محرومالقصواءالعربي< حتى أن جوتييه - بلترز Gauthier Pilters يرى أنه من الصعب تصور علاقة بين إنسان وحيوان أقوي من علاقة البدوي بإبله، وهو يري أيضاً أن البدو >متطفلون< على قطعانهم من الإبل، بحيث يعتمدون علىها في كثير من جوانب حياتهم واقتصادياتها، ولو أن الإبل أيضا محتاجة اليهم في رفع الماء من الآبار (9)·
أما بروكلمان فيذكر أن الإبل للعربي هي أول وأهم مصدر لضرورات حياته، ومن ناحية أخرى فإنها تمثل الرفيق الذي لا يعرف الملل أو الكلل في رحلاته التي لانهاية لها في البراري والقفار·
ولن يأخذنا العجب بعد ذلك إذا علمنا أن البعير كان يلهب رغبة العربي في الصياغة والتصوير الفني (10)·
تكيف الإبل للمعيشة في الصحراء:
من مظاهر تكيف هذا الحيوان في البيئة الصحراوية، التي تتميز بالجفاف وارتفاع درجة الحرارة والعواصف الرملية إلى غير ذلك من عوامل غير مواتية، أقول إن من هذه المظاهر: طول رموش العينين ووجود عضلات حول فتحتي الأنف مما يساعد على سهولة التحكم في إغلاق هذه النوافذ الحيوية للحفاظ على ماء الجسم من الفقدان، وحماية الجسم وفتحاته من الرمال، إلى غير ذلك من الوظائف والفوائد· كما يتحور التركيب التشريحي للفم بحيث يتناسب مع تناول الأعشاب الشوكية كغذاء، فمثلاً الشفة العليا متحركة ومشقوقة، والأسنان قاطعة، أما الفم فمبطن من الداخل والفك السفلي قوي وشديد الصلابة·
أما التركيب التشريحي للخف فغاية في التناسب مع البيئة الصحراوية الرملية، ففضلا عن مساعدته الجمل في المشي في هذه المناطق فإنه أيضا يعمل علي تخفيف ثقل الجسم على الساق عند السير، على الرمال، وما قد يعتريها من صخور وأحجار· أما مساحة السطح بالنسبة لوزن الجسم وحجمه فكبيرة نسبياً كما توجد ثنيات في الجلد مما يضاعف أيضا من مساحة هذا السطح ليتمكن الجمل من التخلص من المخزون الحراري الذي اكتسبه في أثناء النهار حيث ترتفع درجة الحرارة كثيراً عنها في الليل الذي يتميز بنسماته الباردة· أما من الناحية السلوكية فلا تقل عن ذلك ملاءمة وتكيفاً مع البيئة، فحينما تجلس الإبل أو تقف فإنها تفعل ذلك وهي متجاورة وفي مواجهة الشمس فيقلل ذلك بدرجة كبيرة من التعرض لاشعة الشمس لاسيما في الصيف القائظ، أما الجلد فيتألف من أنسجة ضامة سميكة في أماكن كثيرة من الجسم فيقل فيها الإحساس أو يكاد ينعدم، ومن شأن ذلك مساعدتها على الجلوس لفترات طويلة على الأرض الوعرة أو الصخرة الصلبة أو الرمال الخشنة·
أما وجود الوبر الخفيف على أجسامها فيقلل من تأثير أشعة الشمس عليها·
الإبل والماء في الصحراء:
تتميز الصحرء التي تمثل البيئة الطبيعية للإبل، بندرة نصيبها من الماء، وهو بدوره يعتبر من أهم العوامل التي تدعم الحياة وتبقي على الأحياء، ومع ذلك فالمواءمة والملازمة بين الجمل وبيئته الصعبة تلك، أمر لافت للنظر في نجاحه واستمراره على مر الزمان، فمن صور التكيف السلوكية الفعالة التي تبديها الكائنات الثديية الصحراوية الصغرية، لكي تتمكن من التغلب على درجات الحرارة العالية في بيئتها، أن تقوم هذه الحيوانات بدفن أجسامها في التربة أو تصطنع لنفسها جحوراً تحتمي فيها حتى لا تتعرض للفقدان الشديد للماء، فتهلك، إلا أن الجمل لا يستطيع أن يحاكيها في هذا، وبدلاً منه يقوم الجمل باختزال الحرارة في أثناء النهار ليتجنب فقدان الماء عن طريق العرق، ويتم ذلك بكفاءة عالية لا تتوافر عند الثدييات الصغيرة، ومن الناحية التشريحية فإن الدهون تنتشر في معظم الثدييات تحت سطح الجلد خصوصا تلك التي تعيش في المناطق القطبية، الأمر الذي يؤدي إلى تقليل سرعة تبخر العرق، كما أن هذه الدهون ستعوق التسرب الحراري عن طريق الاشعاع وتيارات الحمل، أما في الجمل فتتركز هذه الدهون في منطقة السنام، وهذا يسهل كثيرا من عملية تبخير العرق من باقي أجزاء الجسم ويساعد أيضا في عملية التسرب الحراري سالفة الذكر >11فريزيان الصحراء< وهي مؤهله بالفعل لأن تقوم بدور مهم في حل مشكلات الأمن الغذائي-إذا صلحت النوايا - على مستوى الوطن العربي كله، حيث يتألف معظمه من صحاري هائلة·
إن ما يحمله الجمل فوق ظهره، من دهون مختزنة في سنامه، يمثل له - عند الضرورة - الماء والغذاء معا في وقت واحد بقدرة الله تعالى، فقد كشفت البحوث العلمية في مجال البيوكيمياء أن احتراق المواد الغذائية في أجسام الكائنات الحية ينتج عنه ما يعرف بالماء الأيضى Metabolic water الذي يبلغ ذروته في حال المواد الدهنية، حيث ينتج عن احتراق 100 جرام من الدهون ما يزيد على 107 جرامات من الماء، فإذا عرفنا أن الجمل يختزل في سنامه ما يزيد على 120 كيلو جراما من الدهون ادركنا أنه إذا اشتد به الظمأ وعزّ الغذاء فإنه يستطيع أن يستمد من حرق هذه الدهون الطاقة والماء اللازمين لبقائه لمدة قد تصل إلى شهر ونصف شهر، ولولا ذلك لهلك ظمأً، وعلى ذلك فإن من المجاز أن يطلق عليه القدماء، شرقا وغربا، >سفينة الصحراء< وإني لعلى ثقة من أن هناك الكثير والكثير من الأسرار التي لم يكشف عنها العمل بعد، بخصوص الإبل، التي قدمها الله - تبارك وتعالى- وحدثنا على النظر إليها، في الآية الكريمة من سورة >الغاشية المراجع والهوامش:
1- قاموس القرآن الكريم: معجم الحيوان (1991)، الطبعة الأولى مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، ص 21 ·
2- التفسير الميسر للدكتور محمد سيد طنطاوي، بهامش مصحف الأزهر، مطبعة المصحف الشريف بالقاهرة، ص 479 ·
3- مجمع اللغة العربية (1973): معجم ألفاظ القرآن الكريم، الجزء الثاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 79 ·
4- المصدر رقم 2، ص 280 ·
5- الثعالبي (ب· ت): فقه اللغة وسر العربية، مؤسسة مطبوعاتي اسماعيليان· قم· ص 13 ·
6- محمد عبد الله الصانع (1984): الإبل العربية، الطبعة الثانية، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي ص 56 ·
7- محمد سامي عبده (1987): أسرار في حياة الإبل، مكتبة الآداب ومطبعتها بمصر· ص 13 ·
8- إبراهيم عبد المعطي (1989): >أفلاينظرون إلى الإبل كيف خلقت< >دار المعارف بمصر· ص 11 ·
9- عبد الحافظ حلمي محمد (1992): الإبل عز لأهلها: إعجاز فريد في الخلق، وأمان من المجاعة والفقر كنوز العلم- القاهرة - 1: 59 -73 .
10- عواد الجندي (2003): الجمال عز ومال· مجلة الكويت· 241: 16 -19 ·
11- Louw,G.and Seely ,M (1982):Ecology of Desert.Longman London .p45.