بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى : (( فإذا أفضتم من عرفاتٍ فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإنْ كنتم من قبله لمن الضالين ))
سورة البقرة آية ( 198 )
اختُلِفَ في سبب هذه التسمية على أقوال :
الأول: قيل إنَّ الله بعث جبريل إلى إبراهيم عليهما الصلاة والسلام فحج به ،حتى إذا أتى عرفة قال : عرفتُ ، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك فسميت عرفة .
رُوي هذا عن :
علي بن أبي طالب و عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم
وفي السند إلى كلٍ من علي وابن عباس نظر
وكذا رُوي هذا القول عن :
أبي مِجْلَزٍ ، واسمه : لاحق بن حُمَيْد ، و عطاء بن أبي رباح ، ونُعيمِ بن أبي هند
رحمهم الله تعالى .
وجاءعن السُدِّي ولم يذكر في خبره جبريل عليه السلام ، قال : لما أَذَّنَإبراهيمُ في الناس بالحج فأجابوه بالتلبية ، وأتاه من أتاه ، أمره الله أنيخرج إلى عرفات ونعتها ، فخرج فلما بلغ الشجرة عند العقبة استقبله الشيطانيرده ، فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ، فطار فوقع على الجمرة الثانية، فصده أيضا فرماه وكبر فطار فوقع على الجمرة الثالثة ، فرماه وكبر فلمارأى أنه لا يطيقه ولم يدر إبراهيم أين يذهب ، فانطلق حتى أتى ذا المجاز ،فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز فلذلك سمي ذا المجاز .
ثم انطلق حتى وقعبعرفات ، فلما نظر إليها عرف النعتَ ، قال : قد عرفتُ فسمي عرفات ، فوقفإبراهيم بعرفات حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع ، فسميت المزدلفة فوقف بجمع .اهـ
قال ابن جرير الطبري في تفسيره ( 2 / 286 )
واختلف أهل العلمفي المعنى الذي من أجله قيل لعرفات عرفات فقال بعضهم قيل لها ذلك من أجلأن إبراهيم خليل الله صلوات الله عليه لما رآها عرفها بنعتها الذي كان لهاعنده ، فقال قد عرفتُ فسميت عرفات بذلك .
وهذا القول من قائله يدل علىأن عرفات اسم للبقعة وإنما سميت بذلك لنفسها وما حولها كما يقال ثوب أخلاقوأرض سباسب فتجمع بما حولها ....... اهـ
وقريب من قوله الأخير :وإنما سميت بذلك ..... الخ قريب منه ما في معجم البلدان لياقوت الحموي ( 4/ 104 ) : ويحسن أن يقال إن كل موضع منها اسمه عرفة ، ثم جمع ولم يتنكرلما قلنا إنها متقاربة مجتمعة ، فكأنها مع الجمع شيء واحد ...... اهـ
ومثله أيضاً قول ابن منظور في لسان العرب ( 9 / 242 ) : كأنهم جعلوا كل موضع منها عرفة . اهـ
أي كل موضع منها يقال له عرفة ، فقيل عرفات .
وفيالمصباح للفيومي ص ( 154 ) : وبعضهم يقول : عرفة هي الجبلُ ، وعرفات جمععرفة تقديراً ، لأنه يقال : وقفت بعرفة كما يقال بعرفات . اهـ
ولم يأت ذكر عرفات في القرآن إلا في موضع واحد ، وقد تقدم ذكره في أول المقال ، وأما في الحديث فجاء بلفظ عرفة وبلفظ عرفات .
قالالقاضي عياض في مشارق الأنوار ( 2 / 107 ) : قيل سميت بذلك لأن جبريل صلىالله عليه وسلم عرفه بها المناسك وقيل عرفه بها فقال عرفت . اهـ
هذا هو القول الأول في هذه المسألة ، مع اختلافهم اليسير في الألفاظ والمعاني .
وأما القول الثانيفي سبب هذه التسمية فحكاه ابن الجوزي في زاد المسير في علم التفسير ( 1 /213 ) عن الضحّاك ، وهو : أنها سُميت بذلك لاجتماع آدم وحواء ـ عليهماالسلام ـ وتعارفهما بها . اهـ
وذكر ابن الجوزي أيضاً في مثير الغرامالساكن إلى أشرف الأماكن ص ( 177 ) : أن آدم عليه السلام أُهبط بالهند ،وأُهبطت حواء بجدة ، فتعارفا عند أرض عرفة ، فسميت بذلك . اهـ
وهذاقد أسند نحوه ابنُ سعد في الطبقات ( 1 / 34 ، 39 ) من طريق هشام بن محمدبن السائب الكلبي ، عن أبيه ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس مطولاً جداً فيالموضع الأول ، وفي لفظه نكارة شديدة .
ومن طريق ابن سعد وبلفظه الأول أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 23 / 268 ) .
وهذا إسناد تالف جداً
هشام بن محمد متروك الحديث كما في الميزان للذهبي ( 4 / 304 )
وأبوهمحمد بن السائب متروك أيضاً ، وقد كذبه بعضهم ، كما في ترجمته في تهذيبالكمال للمزي ( 25 / 246 ـ 252 ) وأورد المزي فيها قول أبي عاصم النبيلقال : زعم لي سفيان الثوري قال : قال لنا الكلبي : ما حدثتُ عن أبي صالح ،عن ابن عباس فهو كذب فلا ترووه . اهـ
وهذه الرواية من رواية الكلبي عن أبي صالح .
وأما رواية الضحاك التي ذكرها ابن الجوزي فلم أرها مسندة ، والله أعلم .
وهذاالتوهين للرواية إنما يخص خبر الاجتماع بعرفة ، لا علاقة له بإثباتِ أونفي هبوط آدم بالهند وحواء بجدة ، فهذا له طرق عديدة عن علماء التفسير ،وهي تحتاج إلى دراسة مستقلة ، وهي من فضول أبواب العلم لا من مهماته .
القول الثالث في سبب التسمية :
قالالراغب الأصفهاني في المفردات في غريب القرآن ص ( 331 ) : وقيللِتَعَرُّفِ العبادِ إلى الله تعالى بالعبادات والأدعية ، والمعروفُ اسملكل فعلٍ يُعرف بالعقل أو الشرع حُسْنُهُ ، والمنكرُ ما ينكر بهما . اهـ
القول الرابع : قيل : سميت بذلك لأن الناس يعترفون بذنوبهم في ذلك الموقف .
القول الخامس : وقيل : بل سمي الموضع بالصبر على ما يكابدون في الوصول إليها لأن العُِرْفَ الصبرُ ، قال الشاعر :
قل لابن قيسٍ أخي الرُّقيـّّاتِ ... ما أحسنَ العُِرْفَ في المصيباتِ
ذكر هذين القولين الأخيرين ياقوت في معجمه ( 4 / 104 )
وقوله: لأن العُِرْفَ الصبرُ ، العُِرْفُ : بضم وكسر العين المهملة ، وسكونالراء في الوجهين ، كذا ضُبِطَ في المعجم الوسيط ( 2 / 595 ) ولم يذكر ابنمالك في مثلثه ص ( 126 ) فيه غير الكسر ، قال :
رائحةٌ عَرْفٌ وصبرٌ عِرْفُ ... وكلُ معروفٍ وعالٍ عُرْفُ
والمُتـَتـابعاتُ ثُمَّ العُرْفُ ... للاعترافِ اسمٌ بلا ارتيابِ
القول السادس : قيل لأن الناس يتعارفون في ذلك المكان .
ذكر هذا القولَ ابنُ منظور في لسان العرب ( 9 / 242 )
القول السابع : سميت بذلك لأنها مقدسةٌ معظمةٌ ، كأنها عُرِفَتْ أي : طُيِّبَتْ .
قاله الفيروزآبادي في القاموس ( 3 / 179 ) .
وقد سبق في نظم ابن مالك قوله : رائحةٌ عَرْفٌ .
قال الفيروزآبادي في القاموس ( 3 / 178) :
والعَرْفُ : الريحُ طيبةً أو منتنةً ، وأكثر استعماله في الطيبة .
هذاما تيسر لي الوقوف عليه من أقوالٍ في سبب تسمية عرفة بهذا الاسم ، وأكثرهذه الأقوال وجاهةً عند أهل العلم هو القول الأول ، وإن كان لا يثبت مثلهذا إلا بتوقيف من الشارع ، ولعلَّ ما جاء عن الصحابي الجليل عبد الله بنعمرو بن العاص رضي الله عنهما يقوي القول بهذا ، دون ما جاء عن علي وابنعباس رضي الله عنهم أجمعين ، لعدم ثبوت ذلك عنهما .
والحمد لله أولاً وآخراً
وصلي اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين