أسّس القاهرة القائد جوهر الصقلّي في عام 358هـ/969 م، في عهد الخليفة الفاطمي المعزّ لدين الله(7). وأحاطها بالأسوار والأبواب المحصّنة كباب الفتوح وباب زويلة، وأنشأ فيها شارعاً رئيسيّاً عظيماً سمّي فيما بعد بشارع المعزّ لدين الله الفاطمي، وقد أُنشِئ هذا الشارع بطريقة فنيّة متعرّجة، بحيث يهدف إلى حماية روّاده من أشعة الشمس في صيف القاهرة، وقد كان هذا الشارع المركزي مصبّاً للأسواق الفرعية، والمساجد والحمّامات والخانات والأسبلة والمدارس(8). ويبدو أنّ بناء القاهرة كان نتيجة حتمية لاتساع حاجات الدولة الفاطمية إلى مدينة كبيرة تستوعب الجيوش التي قدمت معها، وتراعي زيادة عدد السكان الجدد، وهو في المحصّلة النهائيّة نتيجة طبيعية أفرزها التطوّر العمراني في المدن الإسلاميّة.
عُرِفت القاهرة في البداية باسم »المنصورية« ، تبرّكاً باسم مدينة »المنصورية« التي »أنشأها خارج القيروان، المنصور بالله والد المعزّ، ولكن الخليفة [المعزّ لدين الله] الذي جاء ليستقر في مصر عام 362هـ/973 م، غيّر اسمها إلى »القاهرة«.«.(9)
وتشير إحدى الدراسات إلى أنّ هنالك مجموعة من الدوافع دفعت القائد جوهر الصقلّي لبناء هذه المدينة، ومنها:
1 ـ الدوافع الجغرافية: قربها من مدينة الفسطاط واتصالها بها.
2 ـ الدوافع الاستراتيجية: كون القاهرة أول مدينة يصل إليها المسافر بعد خروجه من الشام.
3 ـ الدوافع العسكرية: حينما بنى جوهر الصقلّي مدينة القاهرة أراد أن يكون و أصحابه وأجناده في منأى عن العامة.
4 ـ الدوافع الاقتصاديّة: اختيار موقع للمدينة أقرب إلى نهر النيل، بحيث يكون النيل طريق نقل للبضائع والركاب، إذ تصعد فيه المراكب إلى الصعيد، وتنحدر إلى الإسكندرية(10).
إلاّ أنّ هذا الموقع الذي رآه جوهر الصقلّي موقعاً متميّزاً، لم يعجب المعزّ لدين الله لأنه رآه بلا ساحل. عندها نبّه قائده جوهر الصقلّي، قائلاً: »فاتك بناء القاهرة على النيل عند المقسِّ (ميدان المحطّة)، فهلا كنت بنيتها على الجرف…؟ (منطقة الرصد).«.(11) لكنّ الدراسات الجغرافية المعاصرة فيما بعد أثبتت أنّ جوهر الصقلّي »كان موفّقاً في اختيار موقع القاهرة، حيث يضيق عنده مجرى النيل، وحيث تتخلل الجزر المكان الذي تشرف عليه القاهرة، والتي هي أشبه بممرّ طبيعي يسهل للناس الانتقال من ضفّة إلى أخرى ويهون عليهم أمر ذلك كثيراً «.(12)
وإذا كان القائد جوهر الصقلّي قد فاته ما قاله المعزّ لدين الله، انطلاقاً من رؤيته العسكرية لموقع القاهرة الذي ظنّ أنّه يحقق موقعاً مهمّاً لجنوده، وذلك من خلال الميدان الفسيح الذي كانت تُقام فيه حفلات استعراض الجيش والذي يتّسع لعشرة آلاف ما بين فارس وراجل(13)، فإنّ »الخلفاء الفاطميين لم تفتهم النظرة إلى مواطن الجمال في أطراف القاهرة والفسطاط والجيزة، فانتقلوا بها إلى شاطئ النيل وحافتي الخليج، وشبرا حيث كانت الخضرة والماء، فأنشئوا [كذا] المناظر والحدائق وكانوا يقضون فيها أوقاتاً سعيدة «(14).
وقد قُسّمت المدينة لأن تتوزّع فيها الطبقات بحسب موقعها في الهرم السلطوي، بحيث يكون قصر الخليفة بعيداً عن قصور الطبقات الشعبية، وهذا ما يُلاحظ في معظم المدن الإسلاميّة التي شكّلت مدناً مركزية وعواصم للدولة الإسلاميّة، فالشارع المركزي ـ المشار إليه سابقاً ـ كان طوال العصر الفاطمي مقصوراً »على سكن الخليفة ورجاله (…) وقصر السلطان هو مركز القاهرة، ويحيط به قصور الأمراء والقادة، وفي الدائرة الأوسع التجّار والعامة. وعند هوامش القاهرة يعيش المزارعون.«(15). وقد احتلّت مدينة القاهرة مكانة مهمّة بين مدن مصر. ولم تنازعها مكانتها هذه في تاريخ مصر سوى مدينتي طيبة والإسكندرية. والقاهرة أقدم مدينة في العالم باعتبارها وريثة »منف« القديمة.(16)
ومنذ القرن الحادي عشر الميلادي، أشار الشعراء الجوّالة إلى القاهرة باسم بابليون Babilone، وقد انتقلت هذه التسمية للاستعمال العام في أوربا، إلّا أنّ المؤلفين الأكثر اطلاعاً بجغرافية المدن وتاريخها رأوا أنه من الضروري التمييز بين بابليون التوراتية،(17) وبين عاصمة مصر، التي ميّزوا فيها بين مدينتين: هما بابليون التي تحمل اليوم اسم مصر العتيقة، وبين القاهرة الحقيقية التي أسّسها الفاطميون في القرن العاشر الميلادي(18).
وتُعدّ القاهرة من أهم المدن الإسلاميّة التي تمتاز »بثقل ثقافي وحضاريّ وتاريخيّ، حيث تتجمّع فيها مختلف المظاهر العمرانية والتراثية عبر مراحل تاريخها، وذلك منذ تأسيسها عام 969م شمالي الفسطاط « .(19) ويرى أحد علماء الجغرافية المسلمون أنه لو حُصِرت العواصم المخضرمة الإسلامية في الدنيا، فلعلّ القاهرة هي أهم المدن جميعاً(20). وموقع القاهرة هو موقع فريد في مصر وخارجها، فهو موضع التقاء الدلتا بالصعيد في عقدة الوادي.(21)
ويرى أحد الدّارسين أنّ المميّزات المادية لموقع القاهرة جذب العديد من السكان في حين أن بواعث دينية أخرى أسهمت في جلبهم(22). إذ إنّ الأقاصيص الدينية نسجت هالة قدسية حول هذا الموقع، فقد ساد بين الناس »أنّ الدعوات التي تُؤدّى على جبل المقطّم مجابة، وأنّ الله قد وعد بأن يجعل من السفح [سفح المقطّم] روضة من رياض الجنّة، وأنّ هذا السفح يتمتع بخاصيّة خارقة للطبيعة مباركة، فالجثث التي تُدفن فيها لا تبلى لوقت طويل (…) وقد أُعتقد أنّ من يُدفن في نهاية الطرف الجنوبي يُبعث أيام الأربعاء والخميس والجمعة المقدّسين..« .(23)
من الملاحظ أنّ المصادر القديمة، والتي جاءت بعد تأسيس القاهرة، لم تذكر القاهرة تحديداً، بل ظلّت تطلق عليها اسم الفسطاط تارة ومصر تارة أخرى، فياقوت الحمويّ(24) المتوفَّى 626هـ/1228م، بالرغم من استفاضته بالحديث عن الفسطاط ومصر بكثير من التفاصيل، فإنه لا يذكر القاهرة إلاّ مرّة واحدة قائلاً: »ثم اتّفق في سنة 564 [هـ] نزول الإفرنج على القاهرة فأضرمت النار في مصر لئلا يملكها العدو. « . ويبدو أنّ هذه المصادر ظلّت تعدّ القاهرة هي مصر والفسطاط، حيث يغلب الاسم القديم للبلد الكل (مصر) على الجزء المحدث (القاهرة)(25). وقد ظلّ اسم مصر أو الفسطاط غالباً أيضاً على الاسم الجديد (القاهرة) في حكايات ألف ليلة وليلة.